رسائل “كورونا” وفيلم “رسائل البحر”
للوهلة الأولى؛ يعتقد الكثيرون أنّ مُجرّد عقد مُقارنة بين جائحة “كورونا” وأحد الأفلام السينمائية العربية هو ضربٌ من العبث؛ كونها سينما فقيرةً، وفقيرةً للغاية، في الأعمال الاستشرافيّة المُستقبليّة، وما قد يدعم تلك الوجهة أنّ الفيلم تمّ إنتاجه خلال عام 2010. ولكن المُتابع الجيّد لأعمال المُخرج داود عبد السيد، سيرى أنّ الأمر جدير بالنقاش. لذا، سنتعمق قليلًا في بئر عبد السيد، مستضيئين بالفلسفة الوجودية؛ لأجل قراءة رسائله بعيون جديدة.
“رسائل البحر” هو فيلمٌ عن الذاكرة والمكان والناس. ذاكرةُ مدينةٍ كانت ذات يوم “كوسموبوليتية”، وذاكرةُ أناسٍ وطبقةٍ يُراد لهم ولها المحو؛ إذ اختار عبد السيد الإسكندرية بكلّ حمولتها التاريخيّة والثقافيّة والفنيّة ليجعلها الملاذ الأخير لبطله “يحيى” الهارب من جحيم القاهرة ليستقرّ في بيت الأسرة بهذه المدينة الشاطئية الجميلة.
ويدقّ عبد السيد في فيلمه، ناقوس الخطر فيما يخصّ مُحاولة محو خصوصيّة الإنسان الفرد وانسحاقه، تارةً تحت سلطة الجماعة التي تستغلّ سلطة المُقدّس على الخصوص لمحو الذّاكرة الفرديّة وإخضاعها وتدجينها ضمن محميّة القطيع، وثانية تحت تيمة الذاكرة، وثالثة مرتبطة بالقلق والهمّ الوجودي أمام رغبات الآخرين أو نظراتهم.
خلال حياته الجديدة، يجد “يحيى” نفسه أمام هجومٍ شرس للأثرياء الجُدد، أعداء كلّ ما هو جميل وأصيل، بشرائهم للبنايات والإجهاز عليها وتحويلها إلى عمارات إسمنتية ومراكز تجارية. ويُمثّل هذه الشريحة “الحاج هاشم”، الذي لجأ إلى أسلوبي الترغيب والترهيب بعدما رفض “يحيى” البيع. وتتجلىّ دلالة المنزل، هنا، باعتباره رمزًا للبلد ككلّ (مكانيًّا وزمانيًّا)، وباعتبار “يحيى” مُمثِّلًا للطبقة المُتوسِّطة التي ظلّت آخر الصّامدين في وجه الفساد والذّوق الرديء حتى لو اضطرّها ذلك للّجوء للبحر كملجأ أخير ووحيد.
ونجد بالفيلم تنويعاتٍ على تيمة الذاكرة كما في حالة “قابيل” صديق “يحيى” الذي يمرّ بحالات إغماء وتشنُّج دورية يذهب على إثرها إلى الطبيب الذي يخبره بأنّه مُصابٌ بمرض خطير، وأنّ حياته مُهدّدة إن لم يُجر عمليّة جراحيّة قد تُسبّب له فقدان الذاكرة. ليُقرِّر “قابيل” في النهاية إجراء العملية مع الاستعانة بمحبوبته في استعادة ذاكرته وذكرياته.
لقد بدت أغلب شخصيات الفيلم، في البداية، على غير ما هي عليه في حقيقة الأمر. “نورا” حبيبة “يحيى”، التي ظننّاها، كما “يحيى” نفسه، عاهرة؛ نُفاجئ بها في النصف الثاني من الفيلم غير ذلك، رغم إحساسها وكأنّها تُمارس الدعارة بزواجها من رجل ثري متزوج بأخرى ولا يأتي لزيارتها إلا عبر فترات مُتقطِّعة؛ ليُلبّي صُحبتها نزواته الجنسية ويعود بعد ذلك لزوجته الأولى وأولاده.
و”قابيل” الذي يبدو لنا في الجزء الأول من الفيلم مثالًا للشخصيّة القويّة بِحُكم عمله كحارسٍ ليليّ بملهى، اكتشفنا، في مشهدٍ جميلٍ ومُعبِّر يجمعه بـ “يحيى”، أنّه لم يعد يستطيع ضرب أيًّا كان بعد أن قتل عن طريق الخطأ شخصًا منذ سنوات خلت ودخل على إثر ذلك السجن بحكم مُخفف؛ لأنّه لم يكن ينوي القتل.
والبطل “يحيى” نفسه قدّم نفسه لعشيقته “نورا” على أنّه صيادُ سمك رغم كونه طبيبًا وذو ثقافة عالية منعته تأتأته ونطقه غير السليم من ممارسة مهنة الطب.
لقد عاش “يحيى”ـ كما “قابيل” و”نورا” و”الحاج هاشم”ـ طيلة حياته كما يريد الآخرون، عاش وجودًا زائفًا عاجزًا عن مواجهة الآخرين بذاته الحقيقية. ويُمكننا أن نرى تأتأته تعبيرًا عن هذا العجز فهو يتأتئ مع الناس فقط ولذلك تقول له “نورا”: «مش ملاحظ إنك مش بتهته». الأمر إذن قرينٌ بقدرته على توصيل ذاته الحقيقية للآخر.
إنّ الفيلم يحمل بين طيّاته أسئلةً وجوديّةً وفلسفيّةً، وتساؤلاتٍ حول الذات والآخر. يتجلّى ذلك، مثلًا، في المشهد الذي يسبق سقوط وإغماءة يحيى، والذي صوّره عبد السيد أشبه ما يكون بنهاية للعالم، حيث نشعر وكأنّ قُوّةً غيبيّةّ جبّارة تُصرّ على تمرير «رسالة» ما لـ “يحيى” الذي يقف أمامها متحديًّا ومُتسائلًا عن غائية وعشوائية ولا عقلانية مسعاها. وفي هذا المشهد والذي يليه، نرى “يحيى” وهو يشتكي من الجوع، الذي هو في حقيقته “جوعٌ” معرفيّ يحمل في طيّاته أسئلةً تُضنيه وتُؤرّقه حول جدوى الخلق والوجود واعتباطيتهما، خلافًا لحبيبته التي تجيبه بعد سؤاله لها: أنها ليس جائعة.
وترى الفلسفة الوجوديّة أنّ ماهيّة الإنسان هي ما يُحقِّقه فعلاً عن طريق وجوده، وأنّ الإنسان حُرٌّ في اختياره بين المُمكنات المُتاحة، وأنّ الاختيار الحُرّ هو تأشيرة الوجود في العالم.. وما أظنّ أنّ عبد السيد يريد قوله هنا هو: أنّ على الإنسان أن يتحمّل عواقب اختياراته مهما كان المُبرِّر لهذه العواقب، وهذا ما سيدفع الإنسان أن يختار ما يريده فعلًا وليس ما هو مفروضٌ عليه، سواء من السلطة أو المجتمع؛ لأنّه سيعيش مع نتيجة خياره للأبد.
لقد اختار الأبطال نمط حياتهم المرغوب، وقاوموا المفروض عليهم؛ فـ”يحيى” اختار أن يكون صيّادًا رغم كونه طبيبًا، ورغب في الارتباط، بل وتبنّي “طفل” في أحشاء “نورا” التي اعتقدها “باغية”. و”قابيل” اختار ألا يتعدّى بالضرب على أحدٍ رغم كونه حارسًا، وآثر الحياة مُقابل الموت. و”نورا” فضّلت أن تكون “باغيةً” مع “يحيى” رغم كونها سيدةً متزوجة. واختارت “كارلا” الاستمرار في العمل الناجح رغم وجود الفرصة لاستكمال دراستها، كما اختارت أن تكون “مثليّةً” برغم عودة حبيبها “يحيى”. و”الحاج هاشم” الذي لم يرغب في التمسُّك بصورته كإنسانٍ مُتديّن وفضّل أن يكون نهمًا ومِعولًا لهدم التراث بما يحمله من دلالات.
لقد وقف أبطال “رسائل البحر”، باختياراتهم الحُرّة على عتبات عالم جديد أو قديم مستعاد، عالم يَعِدُ بِحريّةٍ أكبر، وبَرَاحٍ أوسع بعد أن صار عالمهم القديم ضيّقًا مثلُ سجنٍ. ميلادٌ جديد لكلّ شخصيّة في عالمٍ غريبٍ يكتشفه بعيونٍ مفتوحةٍ على اتّساعها كطفلٍ يكتشفُ الحياةَ للمرّةِ الأولى. هذا العالم الجديد ليس عالمًا خياليًا ولا أسطوريًا، إنّه عالمنا الذي نعيش فيه كلّ يوم، لكن لأسبابٍ مثل الخوف أو العجز، يظلُّ البطلُ بعيدًا عن هذا العالم.
قامت العلاقات بين أبطال الفيلم على الاختيار الحُرّ الواعي، وبتعبير “كارلا” (الاختيار هنا هو طريقة حياة.. ومكان حياة.. لأنّ باختياري فقدت الزمن الجميل والحياة البريئة)، واختيار “كارلا”، هنا، إنّما جاء بعد غواية الطرف الآخر “مدام ريهام”، لتقول “كارلا”: (الغواية دائمًا جذابة.. ساعات مش مضمونة بس لذيذة). إنّها مُتعةُ البحثِ عن المُخالف والانجذاب وراء روعة الجسد.
ولو عُدنا إلى “كورونا” نجده قد أبعدنا عن الكثير من التفاصيل التي اعتدنا عليها في حياتنا اليومية، جميلها وقبيحها، ولكنّه، أبدًا، لم يكن سلبًا مطلقًا؛ إذ أنّه قذفنا إلى المنطقة الأكثر أهميةً وغموضًا في حياتنا، إلى مصنع الوعي، ووضعنا في مواجهةٍ مُباشرةٍ مع ذواتنا، أو هكذا ينبغي أن يكون.
ومعه انفتحنا على كلّ الإمكانات المُتاحة في مُقابل العُزلة التي يفرضها علينا البقاء، وقبل كلّ شيء، هو انفتاح على الذات، انفتاحٌ لأجلها.. هو الوعي.. الوعي بالذات، وإعادة صياغتها وفهمها وفهم علاقاتها مع الآخر، ومن قبل، مع الله.
وإذا كانت مزامير النبيّ “داوود” تُمجِّد الرّبّ، فمزامير “عبد السيد” هنا تُمجِّد الحياة على هذه الأرض. أفلامه هي رسائل موسومة بالمحبّة وتفيض بالحنين لوجودٍ أصيل وحقيقي في هذا العالم.
ورسالة البحر لـ “يحيى”ـ وأعتقد: كُلُّنا يحيى ـ هي تمامًا: «افعل ما تشاء وتحمّل عواقب فعلك حتى لو انتهى بك الأمر مع مَن تحبّ في قارب ضيّق مُحاطًا بالقبح والموت».
[*] ) باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية وعلوم المجتمع ـ مصر