ان العقل في الفكر العربي له أهمية محورية، وربما اكتسب هذه الاهمية من تكرار استخدام لفظة (تعقلون، يعقلون) في النص القرآني بأفعال المضارعة والتي تعني استمرارية الفعل، مما يؤكد على اهمية استخدام العقل في قراءة النصوص وفهم الآيات، هذا بخلاف ما تحمله لنا التفسيرات السلفية والتي تنحي العقل جانبا انتصارا للنقل، ولو تمت مراجعة الآيات التسع والاربعين التي تأتي فيهم تلك الالفاظ (يعقلون، وتعقلون) لاختلف الامر كثيرا، لكن هؤلاء اهتموا بحفظ الايات دون تدبرها والتفكر فيها كما امرنا الله عز وجل في كتابه.
فالعقل هو الذي أوجد ما نسميه اليوم (الحضارة العربية الاسلامية)، والعقلانية حسب التعريف القاموسي “اسلوب في التفكير أو التفلسف، يقوم على العقل، وبالمدلول المألوف تعني العقلانية، قدرة الانسان في حياته اليومية وممارساته المعرفية، على المحاكمة الواعية، بعيدا قدر الامكان، عن تسلط المشاعر والعواطف، وعلى وزن كافة الاعتبارات “لصالح” او “ضد” الاختيار المعني، وعلى السعي لتعليل أقواله وتصرفاته، وفي الفلسفة تدل “العقلانية” على اتجاه مميز في نظرية المعرفة، يقابل التجريبية.
ولا شك ان النزوع الى العقلانية في المجتمع العربي قديم، الى حد بعيد، ولكن لم يتم تاصيل هذا النزوع واخراج العقلانية الى حيز الوجود على نحو مفاهيمي الا مطلع القرن الثاني الهجري على يد المعتزلة، ويعود السبب في ذلك الى ان حركة الواقع لم تكن تحفز العقل الى تأمل ما يجري حوله على نحو ملح الا في تلك الفترة. حيث واجه العرب، بغزواتهم وفتوحاتهم الجديدة، اوضاعا وقضايا ومشكلات فكرية اثارت عقولهم وحفزتها الى ابتكار طريقة مختلفة في التفكير فيها والتعامل معها.
وعلى الصعيد الاجتماعي فان الصراعات والحروب التي قامت بين أبناء “الدين الواحد” والتحولين الاجتماعي والسياسي للفئات الاجتماعية الاخرى بالاعتماد على تفسيرها هي للدين الذي حولته من خلال تفسيراتها الى غطاء ايديولوجي لها، كل ذلك استدعى ايجاد “ايديولوجية” أخرى للفئات الاجتماعية التي تعاني مظالم الحكم الأموي وفيما بعد العباسي، والتي كان المعتزلة، بمعنى ما المعبرين عن مصالحها، فأذن ذلك بظهور النزعة العقلية والتي كان لها دور كبير في ولوج الطريق العقلاني فيما بعد.
ولا يعني ذلك أن عقلانية متكاملة وشاملة شقت الطريق الى الوجود في تلك الفترة وانما الصحيح هو ان النزوع نحوها، وفي بعض تجلياتها وليس كلها، هو الذي ظهر الى النور، لان حركة الواقع آنذاك لم تكن من النوع الذي يفضي بالضرورة الى السير بالعقل في اتجاه عقلانية شاملة، ولا من النوع الذي يسمح بظهورها على نحو صريح حتى لو كانت واضحة لدى مفكريها.
وهذا ما يوضح معنى قولنا بان العقلانية لم تشكل منظومة مفاهيمية شاملة في الفكر العربي آنذاك، والاهم من ذلك انها كانت تفتقر الى تأسيس فلسفي لها مثل الذي حدث في اوروبا في عصر التنوير.
صحيح ان المعتزلة ابتكروا طريقة فيها الكثير من الجدة في التفكير، وقد توصلوا الى افكار عقلانية ذات شأن ليس بالقليل، لكنهم ظلوا يتحركون بعقولهم داخل الحقل اللاهوتي نفسه، حتى انهم انطلقوا من استدلالاتهم العقلية من المسلمات الايمانية التي كانوا يعتنقونها، لكنهم على الرغم من ذلك، خرجوا على المالوف عند غالبية المسلمين في مسائل كثيرة جعلتهم روادا في توجيه العقل العربي فيما بعد وجهة عقلانية في الكثير من المسائل التي طرحت عليه.
فهم لم يكتفوا بان اضافوا العقل الى الادلة الثلاثة التي اجمع عليها المسلمين (الكتاب والسنة والاجماع) وانما قدموه عليها جميعا في الترتيب، ثم خطو به خطوة جريئة بان جعلوه اصلها الذي به تكتسب قيمة الدليل، ولذلك فقد اوجبوا عرض النصوص على العقل للفصل في مسألة الحسن والقبح على سبيل المثال.
كذلك اعملوا العقل في مسالة صفات الله الواردة في النصوص وتوصلوا الى نتيجة تنتمي الى ميدان العقلانية الى حد كبير، وهي ان الله لا يخلق خلقا جديدا او مستمرا في كل لحظة، وانما يتم الخلق دفعة واحدة وبكينونة واحدة، وبذلك تكون الموجودات كامنة بعضها في بعض منذ بدء التكوين، وتكون قوانين العالم كامنة فيه، ويسير العالم بسبب ذلك وفق نظام ينبع منه، ولذلك لا مجال لتدخل الله، ولا مكان لمعجزات في هذا العالم، وبالتالي ستكون السببية الطبيعية هي القانون الذي يفسر كل ما يحدث فيه.
وقد فعلو الشيء نفسه في مسألة القدر ردا على مظالم الامويين التي سوغوها بالادعاء ان حكمهم انما هو قدر على الناس من الله، لينتهوا الى نسبة الافعال الى الانسان، وتأكيد حرية الاختيار والفعل لديه، وهكذا طوال التاريخ الاسلامي يتدخل الديني في السياسي والفقهي في المصلحي، مابين معارضة وحكومة، على ان التطور الذي طرأ على الساحة الثقافية العربية بسبب تبدل ظروف حياة العرب واوضاعهم واتصالهم الحضاري بالامم الاخرى التي غزو بلادهم وفتحوها، والتفاعل الخلاق بين ثقافتهم في مرحلة نموها وبين علوم الاوائل من هذه الأمم (الطبيعية، والفلسفية)، افضى الى ان ينطلق العقل العربي من منطلقه الخاص الى حد كبير وليس الاكتفاء بالتحرك في حقل الايديولوجية الدينية، حتى لو اقتضى الامر ارتداء الجلباب اللاهوتي في بعض الاحيان، خاصة ان علم الكلام الذي نما واذدهر في فترة سابقة بدا عاجز الان عن الاستجابة لمقتضيات التطور فترتب على ذلك ان شقت العقلانية العربية طريقا جديدا ومتميزا ارتقت بواسطته الى مستوى اكثر تقدما، فعلى الرغم من المظلة الدينية التي كان الكندي يحتمي بها خوفا من البطش، فان في مقدور المرء اكتشاف العناصر العقلانية لديه، حتى في المسائل الاكثر خطورة كمسألة الحقيقة، وفيما يتعلق بمسألة علاقة الله بالعالم فقد خرج الكندي على الثقافة الدينية السائدة وافسح المجال للعقل ليقول كلمته الفصل فيها.
وبموجب ذلك لا يعود الله علة مباشرة للموجودات وانما تتولد بعضها من بعض بحيث يصبح كل منها معلولا لما يسبقه، وعلة لما يأتي بعده، أي انه نفى التأثير الالهي المباشر في المادة، واسند التأثير المباشر فيها الى العلل الطبيعية.
صحيح انه اخفى عقلانيته بلاهوتية ظاهرية، حين اعلن ان ما دون الله فانها تسمى فاعلات بالمجاز، لا بالحقيقة، غير ان ذلك لا يغير من حقيقة نزوعه العقلاني الواضح، فمسألة الحقيقة والمجاز هنا ليست الا مسألة اصطلاحية ما دامت هذه العلل واردة في ترتيب نظام العلل الكونية الانطولوجية كما وصفه هو، وما دام هو نفسه ايضا قد وصف لنا تسلسل تأثيرات هذه العلل بعضها ببعض على نحو نفهم منه ان هذه التاثيرات هي احداث كونية واقعية حقيقية وليست مجازية.
من خلال ما تقدم يتضح لنا ان الثقافة العربية والحضارة العربية الاسلامية قد بنيت في الاساس على مفهوم العقلانية وارتكزت على العقل ولذلك انتجت لنا من العلوم ما كان جزء كبير منها تأسيسا للعلم الحديث في شتى المجالات المعرفية، فطالما كانت مكانة العقل والعقلانية مميزة وفي لصدارة، كان لدينا من العلماء والمبدعين الديرين بصناعة حضارة عظيمة يتعلم منها العالم، وما تأخرنا وتخلفنا عن العالم الا بعدما نحينا العقل جانبا واوقفناه عن العمل وصرنا نردد ما قاله الاولون، واصبح النقل في الصدارة واتخذ مكان العقل.