صارو سنة… ماذا فعلتم بوطني؟

يوم قررت أن أترك وطني، قبل أن يتركني، وأرحل غصبًا عني وفي قلبي ألف غصة وحرقة ولوعة وشوق وحنين وحسرة، كان هذا القرار من أصعب القرارات التي إتخذتها في حياتي الشخصية والمهنية.
يومها قلت، وقد مضى عام على وجودي في كندا، ذاك البلد الذي فتح يديه لإستقبالي بكل ترحاب لأنه عرف أنني “مطرود” من بلدي الذي ولدت فيه، وفيه ترعرعت وكبرت، وفيه ناضلت اشرف نضال، يومها قلت أنه ليس سهلًا أن تقرّر ترك البلد الذي ولدت وترعرعت فيه.

قلت يومها أن أهل السلطة هم الذين أجبرونا على ترك الوطن الذي لا بديل منه، أيًّا تكن البدائل، حتى ولو كانت تقدّم لنا المنّ والسلوى. أجبرونا على هجره. أجبرونا على أن نغيّر من عاداتنا. أجبرونا على أن نحمل على ظهورنا ذكرياتنا، الحلوة والمرّة، إلى حيث يحسدنا الكثيرون عليه.
قلت أنه ليس سهلًا أن تترك الأماكن التي تخاويت معها وفيها كل الذكريات. وليس سهلًا أن تترك من أحببت ومن أحبوك.
وليس سهلًا أن تدير ظهرك وتمشي بكل بساطة وتترك خلفك رائحة الوطن.

قلت أيضًا أنه بعيدًا عن الإنفعال وردات الفعل، عندما غادرت المكان الأحبّ على قلبي، حافظوا على من تبّقى في هذا البلد، إحترموا الذين لا يزالون يناضلون ويرفضون ترك أرضهم وأرض أجدادهم.
قلت أيضًا، وكان في كلامي شيء من النبوءة، إن ما يقوم به أهل السلطة الفاسدة لا يوحي بأن الصامدين سيبقون صامدين إلى الأبد، وهم يرون بالعين المجرّدة كيف تتم عملية إقتلاع أبناء الوطن من جذورهم. وقد تبيّن للجميع لاحقًا صواب ما قلته منذ سنة، وهم أقل ما يقولونه لي “نيالك” ويا ريت نحن فينا نعمل هيك. صدّقوني لو كانت الفرص متاحة لجميع اللبنانيين، بإستثناء قلة أحترمها جدًّا وأقدّر وقفاتها البطولية، لكانوا هاجروا إلى حيث الأمان بكل فروعه، الأمان الأمني ونحن نسمع كل يوم أنباء عن فوضى قد تغزو الوطن في ظل ما يتعرّض له الجيش من مؤامرات، والأمان الإجتماعي، إذ يعيش اللبنانيون أسوأ أيامهم بعدما تخطّى سعر صرف الدولار حدود العشرين ألف ليرة، والخير لقدام، مع إستحالة تأمين القوت اليومي الكافي لإبعاد شبح الجوع والفاقة والعوز، والأمان الغذائي خصوصًا أن اللبنانيين يضّطرون إلى أكل ما هو متوافر، حتى أن بعض الملاحم أصبحت تبيع لحم الحمير، والأمان الصحي بعدما أصبح الحصول على دواء من رابع المستحيلات، وقد سمعت أدعية من كثيرين يتمنون ألا يمرضون ويضطّرون إلى دخول المستشفى.
عندما أجبرت على أن أنسلخ عن وطني منذ سنة كنت أسمع “نغمة” أن الآخرين لا يتركونا نعمل. وقد ثبت لي بعد 365 يومًا إنها الطريقة الأسهل لكي يتهربوا من تحمّل المسؤولية، وقد إكتشفوا أنهم غير أهل لها، وهي تتخطى قدراتهم، إذ ليس بالنيات تُبنى الأوطان، وبالطبع ليس بالتمنيات، ولكنهم لا يريدون أن يعترفوا بهذه الحقيقة المرّة، لأنهم لا يزالون يسكرون على زبيبة بعض “الهيّصة” والمطبلين والمزمرين في كل عرس وفي كل دار، وقد إعتادوا أن ينقلوا البارودة من كتف إلى آخر.
أوقفوا تهجير اللبنانيين أيها المسؤولون “الصوريون”.
أوقفوا وعودكم ببلد مزدهر، وكهرباء 24 على 24، وقد اصبح لبنان من أقصاه إلى أقصاه يسبح في العتمة السوداء التي تشبه قلوبكم المفحّمة.
أوقفوا غشّ الناس، وأوقفوا هذه الكذبة الكبيرة، التي عاشها اللبنانيون على مدى سنين ليكتشفوا في نهاية الطريق أن لا محطة ولا “تران”، بل سراب ووعود خاوية وأصوات طبول تقرع لكثرة ما في عقولكم المريضة من فراغ، وبقيت وردة (فيروز) في مسرحية “المحطة” للأخوين رحباني، من دون تذكرة فيما غادر الآخرون في قطار الأوهام إلى حيث لا رجعة.
كنت آمل أن أعود إلى وطني حاملًا معي ما لم أستطع أن أحمله عندما هُجرّت.
كنت آمل أن أجد وطنًا لا مزرعة.
كنت آمل أن أرى وجوهًا مبتسمة وليس وجوهًا يسكنها اليأس والقنوط والإحباط.
كنت آمل أن أعود وأشم رائحة تراب وطني المقدّس، وقد جعلتمونه مسرحًا للطامعين به من أجل غايات غير غاياتنا، ومن أجل مصالح غير مصالحنا، ومن أجل المزيد من الهيمنة على القرار الوطني… “وقد نامت نواطير مصر عن ثعالبها”.
كنت آمل الا أسمع كل يوم صوتًا آتيًا من بعيد، من وطن الأرز والخير والجمال يقول لي “نيالك”.
لو تعرفون ما نعرفه نحن الذين نعيش في الغربة، لو كنتم تحسّون ما نحسّ به. ما يؤلمنا أن من يعيش في وطن الذّل حاليًا يعيش الغربة في وطنه وكأنه في بلد غريب.
كل سنة وأنتم بألف خير. وسنعود بعد أن ترحلوا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى