الحكومة نالت الثقة… فهل تعود الثقة بالليرة؟

وقف التهريب وتوحيد سعر الصرف عاملان لوقف انهيارها

أمّا وقد نالت الحكومة الثقة، بعد مخاض تأليفها، والثمن المرتفع الذي تكبّدته الليرة والمواطنون أثناء فترة الحمل بها وصولا إلى ولادتها، تتجه الأنظار إلى المصير الذي سيؤول اليه سعر صرف الدولار، وأي انتعاش ستحصل عليه الليرة، وما مدى الارتداد الايجابي لتشكيل الحكومة مع ما تحمله من أمنيات تفاؤلية وثقة بقدرتها على العمل.

في بلد يستورد شعبه 70% من حاجاته الأساسية، وضرورات حياته اليومية من الخارج، لا يمكن لسائل أن يتعجب لِمَ يتحكم الدولار هكذا بمعظم مفاصل حياة هذا الوطن وشعبه؟ فالقفزات الجنونية لسعر صرف الدولار الأميركي بمواجهة الليرة اللبنانية في العامين الماضيين، وما رافقها من غلاء فاحش، ونقص في الكثير من المستلزمات الحياتية والصحية والغذائية، وفقدان القدرة الشرائية للرواتب والأجور، أتت كنتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب السياسية والاقتصادية، إضافة إلى غياب الرؤية والإرادة الجدية عند أهل السلطة لاجتراح حلول ووضع خطط لتفادي المصير الأسوأ والإنهيار الذي كانت الكثير من التقارير والتحليلات تشي بأنه آتٍ لا محالة… هذه القفزات تقلصت عضلاتها قليلا أخيرا، وتحديدا بعد تشكيل الحكومة وبدء تراجع سعر صرف الدولار وخسارته نحو 20% من قيمته إزاء الليرة، وبعدما بدأ الهمس السياسي عن رعاية عربية ودولية لها، ودعم متوقع بدأت بشائره بمنح لبنان حصته “الحرزانة” من حقوق السحب الخاصة به من صندوق النقد الدولي،

والتي بلغت مليارا و136 مليون دولار، وتفاؤل بالقدرة على استقطاب قروض ميسرة واستثمارات غربية لبناء معامل كهرباء جديدة للخروج من العتمة شبه الكلية التي سادت أخيراً.

هذه الإيجابيات المعطوفة على تفاؤل القوى السياسية بإمكان إعادة إطلاق الاقتصاد وتحريك عجلة الحياة التي تعطلت بفعل الحراك الشعبي وجائحة “كورونا” وانهيار سعر النقد، حملت بعض المراقبين على توقع هبوط أكثر لسعر الدولار، والبعض الآخر إلى عدم الركون لهذه الإيجابية، كون لبنان يعيش على صفيح سياسي واقتصادي متحرك، لا وجهة له ولا قيادة موحدة، عدا عن الانقسام العمودي والأفقي معاً، اللذين يرى أهل الحكم فيهما فرصة لتعزيز مواقعهم ونفوذهم، من دون وازع ولا إحساس بالمسؤولية الملقاة عليهم.

وينصح هؤلاء المواطنين بعدم المبادرة إلى بيع الدولارات التي يحتفظون بها وعدم الدخول في لعبة المضاربة، أو الثقة بتحليلات لأصحاب غايات ومصالح تُسوّق لهبوط سريع لسعر صرف الدولار الأميركي، لأنه قد “يكون الفخ الثاني المريع للبنانيين بعد فخ الهندسات المالية، وفوائدها المرتفعة”.

غبريل: التكهنات تخدم المضاربين!

يأخذ موضوع سعر صرف الدولار في السوق الموازية حيزا كبيرا من النقاش والتكهنات. لكن سعر صرف الدولار في هذه السوق لا يخضع للعرض والطلب إنما للمضاربة، وفق ما يقول الخبير المصرفي الدكتور نسيب غبريل لأنّه “منذ اندلاع الأزمة في أيلول من العام 2019 لم تتخذ السلطات أي إجراء جدي للجم التدهور وبدء استعادة عافية الاقتصاد اللبناني والنهوض من الأزمة، ومن ناحية ثانية ولغاية الأسبوع الماضي بقي لبنان لمدة 13 شهرا من دون سلطة تنفيذية بسبب الشلل السياسي والفراغ الحكومي والمناكفات، وتالياً سمح هذا الأمر بوجود فراغ حلّ مكانه المضاربون في السوق الموازية”.

ولاحظ غبريل ان ثمة جهات عدة إدعت أن “الدولار سيصل إلى مستويات قياسية وأنّ سعر صرف الليرة سيتدهور إلى ما فوق الـ30 ألفاً والـ40 ألف ليرة لبنانية، وبعضهم قال إنّ سعر الدولار قد يصل إلى 6 أرقام ما يستدعي شطب أصفار من العملة اللبنانية مستقبلاً، وما ترافق معها من سيناريوات برازيلية وفنزويلية. كما لاحظ ان “هذه الجهات عينها بدأت تتسابق بعد تشكيل الحكومة بالتحليل إلى أي مدى سينخفض الدولار في السوق الموازية. وهذا كله من باب التكهنات، ويخدم مصلحة المضاربين فقط”. وبرأي غبريل يقتضي معرفة سبب وجود السوق الموازية للدولار ومعالجته وعدم الاكتفاء بتحليل ارتفاع أو انخفاض سعر الليرة اللبنانية في هذه السوق، لافتا إلى ان وجود السوق سببه التراجع الحادّ لتدفق رؤوس الأموال إلى لبنان منذ العام 2019، والتوقف شبه الكامل لتدفق رؤوس الأموال بعد قرار الحكومة بالتوقف عن دفع مستحقات اليوروبوند في آذار من العام 2020 وعدم مفاوضة حاملي هذه السندات، بما أدّى إلى تبخر الثقة وإلى تدهور سعر صرف الليرة، مذكرا بان ظهور السوق الموازية وتراجع

ما الحلّ لهذه المعضلة ولتعدد أسعار صرف الدولار؟ الحل برأي غبريل هو بتوحيد سعر الصرف في السوق اللبنانية، لأنّه “لا يمكن لاقتصاد أن ينهض ويعمل بشكل طبيعي مع هذا التعدد بأسعار الصرف، وهذا ما لفت اليه صندوق النقد على صعيد الإجراءات التي يتوقعها من السلطة اللبنانية”، لافتا إلى ان على مصرف لبنان أن “يضع بالتعاون مع الحكومة ممثلة بوزارة المال هذه الآلية وأن تقدّم من ضمن الخطة الاقتصادية المتكاملة التي يجب على الحكومة الجديدة أن تضعها وتذهب بها إلى طاولة المفاوضات، على ان يتم الاتفاق بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد على تاريخ لتوحيد أسعار سعر الدولار في السوق اللبنانية وذلك بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد وبعد بدء الإصلاحات وتحرير صندوق النقد للأموال المتفق عليها بين الطرفين، وبعد بدء مصرف لبنان تكوين احتياطه بالعملات الأجنبية”. هذه الآلية هي عبارة عن “توحيد لسعر صرف الليرة، ليحدد بعدها سعر صرف الدولار بحسب العرض والطلب”. ويضيف غبريل: “في حال ترافق ذلك مع مناخ من استعادة الثقة والإصلاحات وضخّ رؤوس أموال، يصبح لدى “المركزي” القدرة على التدخل في سوق القطع للحدّ من التقلبات الحادّة لسعر صرف الدولار”. وتاليا يلفت غبريل إلى أنه “لا يمكن النظر إلى موضوع سعر صرف الدولار في السوق الموازية بشكل منعزل عما يحصل اليوم في الاقتصاد الكلي. وما يجب أن نصل إليه من خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي هو التوصل إلى اتفاق تمويلي وإصلاحي، لأنّ ما يحصل اليوم هو مجرّد مضاربة وتحقيق أرباح سريع وسط الفراغ الذي تركته السلطة وحان الوقت لمعالجة الأمر”.

وإذ لا يحبذ غبريل اعطاء أي توقعات عن تحسن أو تراجع الليرة اللبنانية لان مثل هذه التوقعات او التكهنات تخدم المضاربين والمضاربة، تؤكد مصادر اقتصادية انه “يستحيل توقع تحسن سعر الليرة مقابل الدولار طالما لم تبادر السلطات الرسمية إلى الحد من ظاهرة التهريب، التي ستبقي الطلب كبيرا على الدولار من السوق السوداء الموازية”.

وإذ تستغرب هذه المصادر لجوء البعض إلى السوق السوداء رغم وجود منصة مصرف لبنان “صيرفة”، علما ان فارق سعر الصرف بين الجهتين كبير، تعود وتوضح ان غالبية المتعاملين مع السوق السوداء هم من مبيّضي الاموال والمتهربين من الضرائب، وتاليا لا يناسبهم التعامل مع المنصة الشرعية حتى لا ينفضح حجم أعمالهم السابق”.

إلى ذلك، تؤكد المصادر عينها ان “ما من سبيل لتعزيز وضع الليرة الا عبر استعادة وتعزيز الثقة بالوضع الاقتصادي والسياسي وتنفيذ الحكومة الجديدة للاصلاحات الكفيلة بجذب الاستثمارات والمساعدات الدولية، وتعزيز ثقة المغتربين لضخ دولارات في البلاد”.

وتخلص إلى ان “التقلبات الحادة في سعر الدولار لن تهدأ، طالما ان السوق الموازية تشهد مضاربات كثيفة، وطالما ان طباعة الليرة مستمرة على نحو كبير لتمويل السحوبات بالليرة اللبنانية من المصارف ولسد عجز الموازنة، وطالما نستخدم الاحتياط الإلزامي في مصرف لبنان للدعم وغيره…”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى