رهانات متصارعة في ليبيا
تبرز المعركة الدائرة في ليبيا التحولات المستجدة في سياسات الأطراف الدوليين والإقليميين، وامتلاك كلّ منهم أجندة خاصة في هذا البلد، تتقاطع أو تتناقض ظرفياً مع أجندات بقية اللاعبين، ولا تلتزم بالتحالفات التي سادت العقود الماضية. نظرة سريعة إلى هوية الأطراف المتعددين الداعمين لكل من الفريقين الليبيين المتنازعين، وطبيعة علاقاتهم بعضهم ببعض، تؤكد هذا الاستنتاج. فبينما تقف فرنسا، الدولة العضو في «الناتو»، وإسرائيل، الحليف العضوي للولايات المتحدة، وكذلك السعودية والإمارات ومصر، المتحالفين معها أيضاً، وإن بدرجات متفاوتة، وروسيا، أحد «منافسيهم الاستراتيجيين»، إلى جانب خليفة حفتر، تدعم تركيا، العضو في «الناتو» أيضاً، والحلف نفسه بقيادة واشنطن، أو بدقة أكبر الجيش الأميركي، ومعهم إيطاليا، حكومةَ فائز السراج. مما لا شك فيه أن تعدد اللاعبين ورهاناتهم المتباينة بل المتناقضة، بما فيها عند مساندتهم الطرف الليبي نفسه، يزيد تعقيد الأزمة المحتدمة في هذا البلد، وكذلك صعوبة فهمها استناداً إلى أدوات تحليل مستخدمة في مراحل تاريخية سابقة تفترض وجود تحالفات ثابتة تقودها أقطاب مهيمنة. وهذا نموذج عن اتجاه عميق يعتمل في المسرح الدولي قد يصبح معه الأخير ملعباً يحتشد فيه عدد متزايد من اللاعبين من دون قواعد متعارف عليها للعبة.
كانت ليبيا قد أضحت في السنوات الماضية أبرز ساحات المواجهة المستمرة منذ 2011 بين المحور السعودي ــ الإماراتي، الذي تحالفت معه مصر، والمحور التركي ــ القطري. شملت هذه المواجهة عدداً من بلدان المنطقة، بينها مصر وتونس وسوريا واليمن وامتدت إلى أنقرة، مع الاتهامات التي وجّهها رئيسها، رجب طيب إردوغان، إلى أبو ظبي والرياض بتمويل ودعم المحاولة الانقلابية ضده في 2016، ووصلت إلى الخليج مع «حصار الدوحة» سنة 2017، لكنها اليوم تحتدم في ليبيا. أحد العوامل التي قادت إلى هذا الاحتدام هو القرار السعودي ــ الإماراتي ــ المصري بالإجهاز، إن كان ذلك ممكناً، على حكومة السراج التي تمثل في نظرهم مظلة سياسية لما بقي من قوى الإسلام السياسي في ليبيا، بمعزل عن مدى مطابقة هذا الموقف للواقع. ترى هذه الدول أن هزيمة «الوفاق الوطني» ستعني أيضاً نهاية لنفوذ تركيا، العدو الرئيسي لها، وتسهيل إزاحة حركة «النهضة» من المشهد السياسي في تونس، ومن ثم سيطرتها عملياً على الفضاء الممتد من المغرب، باستثناء الجزائر، إلى مصر والسودان، مروراً بتونس وليبيا، وصولاً إلى القسم الأعظم من الخليج العربي. بالنسبة إلى نظامين مهجوسين بالحفاظ على استقرارهما، كالرياض وأبو ظبي، سيكرس مثل هذا الانتصار إبعاداً لأي تهديد في المدى المنظور على الأقل.
أما القاهرة، فترى أن الحسم في ليبيا سيلغي إمكانية استخدامها كقاعدة خلفية لدعم القوى الإسلامية المعارضة فيها، من قبل تركيا، وسيعزز نفوذها الذي قد يسمح لها بالحصول على مكاسب في ميدان الطاقة، وموقعها في المواجهة الجيو ــ اقتصادية الدائرة حول حقول الغاز في شرق المتوسط. من جهة أخرى، الاعتبارات المرتبطة بالطاقة، وكذلك الأيديولوجية، أي عداءها المتجذر للإسلام السياسي، ولو أظهرت بعض المرونة حياله في السنوات الماضية، أو المستجد لأنقرة، هي بين المحفزات التي دفعت باريس إلى خندق حفتر. غير أن اعتبارات أخرى، أمنية واستراتيجية متصلة بتموضعها العسكري في منطقة الساحل بحجة عملية «بركان» لمكافحة الإرهاب، وما يثيره من احتجاجات متصاعدة بين شعوب بلدان هذه المنطقة، تحديداً في مالي وبوركينا فاسو، هي التي تفسر الإصرار الفرنسي على الاحتفاظ برأس جسر في ليبيا المجاورة، يعزز القدرة على التدخل فيها. وبالنسبة إلى حسابات موسكو، فهي متعددة أيضاً، لأنها مهتمة بالوجود عسكرياً في هذا البلد كجزء من تموضعها في شرق المتوسط، بل تسعى إلى الحصول على قاعدة جوية في قرضابية، وهما تحولان سيجعلان ليبيا منصة روسية للانطلاق نحو جمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو، حيث أصبح لديها انتشار عسكري. أما تل أبيب، فلا تفوّت فرصة للتطبيع مع أي جهة عربية راغبة في ذلك، خاصة إذا تم الأمر برعاية إماراتية، كما يحدث في ليبيا. وكان عبد السلام البدري، القريب من حفتر، قد صرّح لصحيفة «مكور ريشون» الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي عرّفت عنه بصفته نائب رئيس الحكومة الليبية، بأنه يأمل «أن تنضم إسرائيل إلى داعمي… حفتر. إننا لم نكن في يوم ولن نكون أعداء، وإننا نأمل تأييدكم».
في الجبهة المقابلة، تقف أنقرة بقوة مع حكومة السراج، والتي تتمتع بعلاقات وثيقة جداً مع بعض مكوناتها لحماية نفوذها في ليبيا وتعزيز موقفها في المواجهة الجيو ــ اقتصادية حول الغاز في شرق المتوسط، وللحؤول دون ضرب حلفائها في تونس، وهو ما سيحدث بالضرورة في حال هزيمتها في المعركة الحالية. الجيش الأميركي، ومعه «الناتو»، عادا إلى الاهتمام بليبيا بسبب «التسلل» الروسي إليها، مع خشيتهما من محاولات موسكو التواصل مع «الوفاق» لتستطيع في مرحلة لاحقة أن تلعب دوراً وازناً في مساعي التسوية، مع ما ينجم عن ذلك من تقوية لنفوذها. لقد تدخلت واشنطن مباشرة وبحزم لوقف التواصل بين الطرفين. فتحجيم الدور الروسي وإفشال احتمال التوصل إلى تفاهمات تركية ــ روسية، وهو أمر وارد في وضع شديد السيولة كالوضع الليبي، أولوية لدى الجيش الأميركي والدولة العميقة، لكنه لم يكن أولوية لدى الرئيس دونالد ترامب الذي أيّد حفتر عندما بدأ هجومه باتجاه طرابلس سنة 2019. روما، من جهتها، تساند «الوفاق» نتيجة العلاقات الوطيدة التي تجمعها ببعض أقطابها، مع رهانها على أن تحصل على حصة كبيرة من العقود في ميدان الطاقة وإعمار البنية التحتية في هذا البلد.
اللافت أن بعض الأطراف الداعمين للجهة نفسها في ليبيا له مصالح متناقضة وبقوة. فروسيا مثلاً تنازع فرنسا على بعض مناطق نفوذها في القارة، كجمهورية أفريقيا الوسطى مثلاً. إسرائيل، على المستوى الاستراتيجي، وكذلك السعودية والإمارات، لا ينظرون بعين الرضى إلى إمكانية نمو النفوذ المصري وحصول القاهرة على مكاسب في مجال الطاقة تعزز مكانتها في الإقليم وقدرتها على التأثير. الطابع الظرفي للتقاطعات بين هؤلاء اللاعبين يفتح الباب أمام الاحتمالات شتى، كانقلاب التحالفات والتصادم بينهم، أو التوصل إلى تفاهمات تعبّد الطريق نحو تسوية سياسية في بلد فقد فيه الأفرقاء المحليون القدرة على التحكم في مصائرهم، منذ استباحه «الناتو» بذريعة دعم «ثورته الشعبية».