ما بعد الضمّ: الانتفاضة… أو أُكلنا يوم ضاعت فلسطين
يبدو أن السؤال الملحّ، بناءً على التجربة الطويلة من سبعة عقود مع الاحتلال الإسرائيلي، يجب أن يكون عمّا بعد الضم، أي ماذا سيفعل العدوّ، المعروف بتخطيطه البعيد المدى وبخطواته التدريجية الهادفة إلى مشروع أوسع ومدروس، بعد أن يُعلن الضم. لا يعني هذا أنه لا داعي للسؤال عما بعد الضم فلسطينياً، أي عن رد الفعل (انتفاضة جديدة، هبّة شعبية محدودة، حرب أو مواجهة عسكرية محدودة أيضاً)، مع أن هناك غياباً لأيّ استراتيجية ردّ فلسطينية واضحة، بل فقداناً للمؤشرات ذات العلاقة في الشارع، لكن القلق يجب أن يكون الآن في مكان آخر، وخاصة أن احتمالات التصعيد فلسطينياً ليست مرتبطة بقرار الضمّ حصراً، بل بما يمهّد له القرار لاحقاً. بعبارة أخرى: من يريد أكل أكثر من 90% من فلسطين الآن «لن يغصّ بالباقي». ومتى بدأ ضم 30% من الضفة، وأصلاً هناك سيطرة إسرائيلية على 52% منها تقريباً (تصير السيطرة شبه كلية: 82%)، فستكون خطوة العدو التالية الإجهاز على ما تبقى، وخلال أقل من عقد كما يظهر تسلسل الأحداث.
ماذا حدث كي نفيق في الأول من تموز/ يوليو 2020 ونجد بنيامين نتنياهو يعلن الضم؟ القصة الفلسطينية تعيد نفسها: يوماً ما سمعنا عن موجات هجرة يهودية إلى فلسطين. قال بعض كبار القوم: لا يهمّ، الأمر ليس بهذه الخطورة. تكونت مستوطنات زراعية صغيرة. أيضاً لم يلمس كثيرون الخطر بعد، إذ لا نزال تحت رعاية «بقايا الخلافة العثمانية»… إلى أن جاء «الانتداب» البريطاني، ليصير تسلسل الأحداث أسرع، وينفجر العنف الإسرائيلي مؤدياً إلى النكبة. هكذا، من خسارة إلى خسارة حتى مضت 19 سنة بين 1948 و1967 «ارتاح» خلالها الفلسطينيون إلى وضع ما: خسرنا ما خسرنا، ولن يكون أكثر. لكنّ «صدمة» 1967 مثّلت تحوّلاً خطيراً في مسار الضياع. صحيح أن هذه النكبة الكبرى، لا الانتكاسة، أطلقت لاحقاً مسار المقاومة الفلسطينية من دون عناوين عربية، لكن السلوك نفسه بقي مستمراً في: قصر النظر وغياب الاستراتيجيات والدخول في حسابات إقليمية خاسرة.
1987 وجاءت الانتفاضة الأولى التي شكّلت علامة فارقة لجهة النموذج والأداء، باستثناء النتيجة: من كان يتخيل أن تفضي هبّة شعبية كبيرة ومميزة مثل انتفاضة الحجارة (تحتاج الآن تحديداً إلى إعادة دراسة وتعميم)، بكل ما فيها من تضحيات وإدارة شعبية منقطعة النظير، إلى اتفاق مسخ مثل «أوسلو»! من بعد «أوسلو» عباس ــــ عرفات، حدّث ولا حرج. ومن بعد الانتفاضة الثانية تحوّل المشروع الفلسطيني، بجناحيه «فتح» و«حماس»، إلى مشروع سلطة. خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم انفجار الانتفاضة الثانية على مدى خمس سنوات، عمل الأميركي والأوروبي على «تسمين» الفلسطينيين وإتخامهم بفكرة الحياة تحت الاحتلال وإمكانية الموازنة بين أن نبني ونعمر ونتاجر، وأن نقاوم ــــ أو نتعايش لدى بعضهم مع ــــ الاحتلال! معادلة غريبة أفضت إلى حالة شلل فصائلي وجماهيري غير مفهومة، في حين أن غزة التي تمثل الاستثناء تحولت إلى «نقطة ارتكاز» للمقاومة، لكنها محكومة بمعادلات جعلت المواجهة تتحول من مقاومة مستمرة هدفها استنزاف الاحتلال حتى التحرير إلى مقاومة مكبّلة بحسابات الحكم المحلي واعتبارات المواجهات الحربية الكبيرة.
في خلاصة عاجلة ومزعجة: نحن من سهّل على الاحتلال الوصول إلى الوضع الذي نحن فيه الآن. صحيح أن مقاومتنا أعاقت نجاح المشروع الصهيوني عن صورته المثلى، بل أخّرت وأحبطت كثيراً من مشروعاته، بجانب جهد المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومات العربية، لكن ما نحصده اليوم هو نتاج الخيبات التي زرعها المفاوضون من جهة، وأخطاء الفصائل كافة من جهة أخرى. أما يوم قررت المنظمة، ثم السلطة، الاستغناء عن فلسطين 1948، فقد انتهت فلسطين كاملة، وما عاد من وجه حقٍّ لمطالب، إن كانت القصة باعتبارات الحد الأدنى من الكرامة، أو حتى المنطق السياسي المقبول! أيضاً يوم أن قرر أحدهم أن يكبّل المقاومة بدخول منتجات «أوسلو» والعمل تحت ظلها، بتنا أعجز عن صنع الفعل، بل حتى صنع رد الفعل الذي صار بدوره يُدرس إسرائيلياً كأنه عامل يمكن التحكم فيه بأريحية!
بجمل سياسية وعملية أكثر تحديداً: لقد بتنا بحاجة إلى صدمة أكبر من كل هذه الصدمات. فلعل الحاجة إلى الاحتلال تكون أسوأ من الاحتلال نفسه. بمعنى أكثر وضوحاً: ربما يكون ضم الضفة فوراً وكاملاً هو الفتيل الأفضل لإشعال برميل البارود، بدلاً من الخطوات التدريجية التي تعلمت السلطة جيداً كيف تتأقلم معها، وكيف تجبر شعبها على التأقلم معها. وإن كان الإسرائيلي يعرف نتائج مثل هذه الخطوة، ولذلك يمكن أن ينحو صوب خطوات تدريجية كما جرت عادته، فإن إحساس الشعب الفلسطيني بأنه لم يعد هناك ما يخسره أكثر سيعجل بالانتفاضة كونها الواجب، لا الخيار، الأكثر منطقية في ظل حالة الاحتلال القائمة لا المستجدة، وبعدما أثبتت الحروب الأخيرة في غزة أن القضية لم تكن يوماً في نوعية السلاح حصراً، بل في عقلية المقاومة وطريقة إدارة المواجهة.
هنا عودة إلى الضفة. منذ 2002 ــــ 2005 خسرت المقاومة المسلحة قاعدة استناد كبيرة هناك. يمكن أن يقال ما يقال حول السبب: عملية «السور الواقي»، عقيدة «الفلسطيني الجديد» ودور الجنرال الأميركي كيث دايتون، توريط المجتمع في القروض والديون الذي قاده رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، إخفاق الفصائل في إدارة الانتفاضة وحمّى التنافس في العمليات الاستشهادية وتسارعها والاختلاف في جدوى بعض الأماكن المستهدفة… لكن النتيجة واضحة: منذ أن خرجت الضفة من المعادلة الفعلية للانتفاضة الثانية، انتهت الانتفاضة عملياً، بل إنه منذ 2005 تقريباً لم يجرِ أي عمل رسمي للفصائل في الأراضي المحتلة عام 1948 كما في سنوات الانتفاضة، لتتحمل غزة العبء الأكبر، قبل أن ينتهي مصير القطاع بين 2006 و2007 إلى حالة حصار وحرب وكر وفر.
هذه المراجعة السريعة لتلك الأحداث هي إجابة واضحة عما يحدث في 2020، فالمشكلة ليست في دونالد ترامب كأنه صاحب الفكرة الجديدة والصدمة. يكفينا أن بنيامين نتنياهو يرافقنا في هذا الصراع منذ 2009، وهذا دليل على عمق الأزمة فلسطينياً: هل عجزنا عن مواجهة رجل/ عقل واحد منذ 11 سنة؟ طبعاً لا، فشخصنة المشكلات هي عمق أزمتنا، ولذا يصير أي قراءة أو مراجعة نقدية للسلوك الفلسطيني (المقاوم أولاً بصفته صاحب المسؤولية والأمانة الكبرى والسياسي ثانياً بصفته حاصد النتائج) كأنه استهداف شخصي يوجب الدفاع عن الذات بدلاً من تقديم الحلول والإجابة عما هو مقبل.
مع هذا كله، ليس بإمكان أحد أياً كان إلغاء الرهان على الشعب الفلسطيني. من المؤسف لهذا الشعب أنه قدم كمّاً ونوعاً كبيراً من التضحيات مقابل نتائج لا تذكر. ولذلك علّمته هذه التجربة العميقة والمؤلمة ألّا يثق بأحد بقدر ثقته بنفسه، وهنا لبّ الخطاب. والإسرائيلي، وإن كان قلقاً من غزة ومقاومتها من جهة، وغير مشغول البال من السلطة والأنظمة العربية من جهة أخرى، فإن أكثر ما يخشاه هو الناس الذين خبرهم جيداً منذ عقود. ربما يمر صباح 1 تموز/ يوليو، إن أُعلن الضم، كأيّ صباح آخر في الضفة والقدس والـ 48 وغزة، لكن ما بعده من أيام حبلى بما هو غير متوقع، فلسطينياً وإسرائيلياً.