نبيه بري بين الصلاحية والدور والتجربة: أقلّ بقليل من ثلث عمر البرلمان
كتب نقولا ناصيف في” الاخبار”:ما إن تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، يصبح في صدارة الاستحقاق صاحب الاختصاص الأول فيه، رئيس مجلس النواب. تنيط به المادة 73 توجيه الدعوة إلى جلسة الانتخاب وتحديد موعدها، كي تُنبئ بأنه ذو الدور الأول. حتى ذلك الوقت، وفي الغالب تكون معركة الرئاسة افتتحت خارج البرلمان، لا يعدو تسابق المرشحين المعلنين والمخفيين سوى تنافس افتراضي، في انتظار ما يقتضي أن يتزامن مع توجيه الدعوة وتحديد الموعد: الشق الآخر في وظيفة رئيس المجلس وهو دوره.
عمر نبيه برّي في رئاسة البرلمان أقلّ بقليل من ثلث عمر السلطة الاشتراعية منذ الاستقلال. سابع رؤسائها المتعاقبين بعد صبري حمادة وحبيب أبي شهلا وأحمد الأسعد وعادل عسيران وكامل الأسعد وحسين الحسيني. تقدّمه عليهم جميعاً ليس في عمر الولاية المجدّدة سبع مرات فحسب. عندما كانت ولاية رئيس المجلس سنة فسنة، كان ثمّة آخرون توالوا أو عمّروا فيها. أطولهم عمراً آنذاك الأسعد الابن (16 مرة بينها 14 سنة بلا انقطاع)، فحمادة (18 مرة متقطّعة)، فالحسيني (8 مرات متواصلة، الاثنتان الأخيرتان كانتا في ظل اتفاق الطائف)، ثم عسيران (6 مرات متواصلة)، والأسعد الأب (مرتان)، وأبو شهلا (مرة وحيدة عام 1946 سُجلت في ذلك الحين سابقة منافسة أرثوذكسي شيعياً وفوزه بغالبية الأصوات بمنصب كان انتقل إلى الطائفة الشيعية للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات شغلته على التوالي ما أوحى بتكريس التخصيص).
ثمّة أيضاً ما تقدّم به برّي عليهم هو مواكبته، حتى الآن على الأقل، عهود أربعة رؤساء للجمهورية هم الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. الأولان اختارتهما سوريا وحدها بلا شريك لبناني أو إقليمي. الثالث أنجبته فتنة شيعية – سنّية. رابعهم بَانَ كأنه فُرض عليه وأخفق في الحؤول دونه. بذلك لم يختر برّي أياً من الرؤساء الأربعة، مع أن انتخاب الهراوي سبق وصوله إلى رئاسة البرلمان.
لكلّ منهم معه مشكلة: صنع مع الهراوي ترويكا الرؤساء ثم انقلب عليها وتحفّظ عن تمديد ولايته عام 1995، وخاض ضد لحود معركة سمعة البرلمان الذي يترأس عند تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية عام 2001 وتحفّظ عن تمديد ولايته هو الآخر عام 2004. في كل من هذه، لم يملك الوقوف في طريق قرار سوريا. إلا أنه الوحيد المعهود إليه جعل القرار السوري لبنانياً، والمخالفة حاجة ضرورية وحتمية. رفع التسوية إلى منزلة فوق الدستور عندما حمل البرلمان على انتخاب سليمان رئيساً عام 2008 دونما تعديل المادة 49، بأن ذهب إلى المادة 74 للفور للمرة الثانية في تاريخ الدستور نفسه تُستخدم بعد عام 1952. رابع الرؤساء لا تجمعه به إلا خصومة شخصية وتباين في الرأي وخلاف في التفسير وتعارض في الاجتهاد وافتراق في الرؤية إلى النظام. بينهما عداء عمره أربعة عقود أخفق الزمن في إخفائه، دونما أن يكونا مرة في متراسين متقابلين كما عون مع وليد جنبلاط. لم يكن الرئيس الحالي مرشّحه لقيادة الجيش عام 1984، وتباعدا إبان انقسام الحكومتين، ولم يتحالفا مرة بعد عام 2005 في انتخابات نيابية ولا في الحكومات. لم يصدّقا، برّي وعون، مرة أن حليف الحليف حليف. قلَبَا المعادلة كي يكون حليف الحليف الأشد عداءً. من مدرستين مختلفتين وطباع متقلّبة مناوِرة وثقافة متنافرة. لا أحد مثلهما قدّم دليلاً سياسياً على الرؤية التوراتية القديمة: السماء سماء والأرض أرض.
أصعب قرارات برّي أن يدعو إلى جلسة انتخاب عون رئيساً، ولا يكتفي بأن لا يقترع له، بل يقود معركة الأوراق البيض الـ36. كان لأسلافه المتعاقبين مرشحون للرئاسة صوّتوا لهم في مواجهة منافسيهم وأتاحوا فوزهم. لأنه ممن لا يتجرّعون ما يحسبونه سُمّاً ـ وإن من كأس الحليف في الطائفة نفسها – قدّم نموذجاً عن الدور الذي يضطلع به رئيس المجلس وهو يجبه مرشحاً واحداً: أن يفوز الرئيس عام 2016 من الدورة الرابعة. ذلك ما لم يحصل مرة. لعل المعبّر الأشد وقْعاً في جلسة 31 تشرين الأول، أن برّي، بعد إعلانه النتائج النهائية للاقتراع، اكتفى بالقول: «مبروك. تلاوة المحضر». ثم انتقل إلى افتتاح جلسة أداء اليمين الدستورية.
في الحقبة السورية، رئيس المجلس كان المُعوَّل عليه عند دمشق أولاً ثم في الداخل، لتقديم المخارج المتعذّرة وأحياناً المستحيلة. ذلك ما سيمنحه ما هو أكثر من الاحتفاظ بمنصبه على نحو غير مسبوق في تاريخ السلطة الاشتراعية، بأن يصبح ضرورة لبقاء الانتظام. المنتظمون عندئذ كثيرون: ما بين الرؤساء، وما بين القوى السياسية، وفي الشارع. الأهم هو الانتظام في البرلمان. معه، أمكن القول إن مجلس النواب تحوّل – أو كاد – إلى كتلة نيابية واحدة، غير ذات جدوى الفروق بين قواها وكتلها، موالين ومعارضين. كأسنان المشط متساوية أمامه. في الحقبة السورية أيضاً سهّلت إدارة نصاب ثلثي المجلس وانصياعه. في ما بعد لدى انقسام الشارع بين قوى 8 و14 آذار لم تنتقل العدوى إلى داخله. عندما أقفل مجلس النواب في وجه حكومة فؤاد السنيورة مذْ استقال الوزراء الشيعة، لم يعد يُسأل عن صواب ما فعل، بل راح الجميع يبحثون معه عن تسوية تعيدهم إلى تحت قبة المجلس. لحظة حاجة الضحية إلى مضطهدها. الواقع أنها قبّة برّي بالذات.
لم يكن مرة في صورة أيّ من أسلافه المطبوعة برؤساء الجمهورية على أنهم مدينون لهم بانتخابهم على رأس السلطة الاشتراعية، شأن حمادة مع بشارة الخوري وفؤاد شهاب وشارل حلو، وعسيران مع كميل شمعون، والاسعد الابن مع سليمان فرنجية والياس سركيس وأمين الجميّل. منذ عام 1984 أضحى انتخاب رئيس المجلس، في جزء أساسي منه، وليد إرادة دمشق قبل أن يُكرَّس لها وحدها القرار منذ عام 1992. بيد أن ذلك عنى أن انتخابه، مرة كل أربع سنوات بما يُمكن أن تعنيه هذه المدة من مناعة لموقعه وحصانة لدوره، بات يُنظر إليه على أنه أكثر بكثير مما ينص عليه النظام الداخلي: أن يمثل البرلمان ويتكلم باسمه ويترأّس جلساته ويرعى تطبيق الدستور والقانون وحفظ الأمن. أضحى انتخاب رئيس المجلس استحقاقاً في ذاته، مماثلاً لانتخاب رئيس الجمهورية لا مكمّلاً ثانوياً. ما لم يُعدّ قبل اتفاق الطائف أنه قوة طائفته في السلطة والحكم، صار كذلك في المرحلة الجديدة.
بات برّي الثابتة الوحيدة في نظام يتغيّر كل ما فيه: رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، الحكومات، المجالس النيابية، الموظفون الكبار مدنيين وعسكريين والقضاة. تتغيّر كذلك القوانين ويُعدّل الدستور ويُطبّق أو يُفسَّر تبعاً للمراد. تخرج وجوه تاريخية وتحضر أخرى جديدة دونما أن يبدو أن ثمّة شيئاً استجدّ. هو شقّ آخر مهم في مغزى الدور الذي كان لبرّي: الانتظام.هي المفارقة الفعلية الناجمة عن جعله – لأنه هو بالذات – الأعرف في الجمهورية، الأقدر على التأثير، الطرف المنحاز إلى حزبه وسلاح حزبه والمقاومة كما إلى طائفته التي يمثلها. على وفرة ما قيل، ولا يزال يقال، وسيظل يقال، إن حزب الله انتزع منه قيادة المقاومة المسلحة وقصر عليه المرجعية السياسية التي لا يأفل دورها، إلا أنه احتاج إليه عندما كان ينتظر الدخول إلى السلطة. ثم احتاج إليه إلى جانبه، ولا يزال، وهو في السلطة. إلى أفكاره ومناوراته وفتاواه، إلى صورته غير المشوبة بعيب عند الغربيين عندما يحاورهم نيابة عن حزب الله، ولا يسعهم هم إلا أن يحاوروه، ولا يؤلّبون خصومه عليه بل يدعونهم إليه.الرجل غير المستغنى عنه.