ما هو أبعد من “فرحة” التوافق على ترسيم الحدود
وسطّ هذا الكمّ الهائل من الأحزان يحقّ للبنانيين أن يفرحوا، ولو قليلًا، ليس لأن لبنان الرسمي وافق من حيث المبدأ على إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع عدّوه التاريخي، بل لأن هذه الموافقة جاءت موحدّة، ولأن لبنان ضَمن حقّه في ثروته الغازّية والنفطية في مياهه الخالصة.
فمن بين ركام الأزمات التي يعيشها اللبنانيون، أقّله منذ ثلاث سنوات متتالية، حيث خسروا كل ما يملكونه، لاح بالأمس بصيص أمل بغد أفضل، على أن تأتي النتائج اللاحقة كما يشتهونها أو يتمنونها.
الأهمّ من الإتفاق الترسيمي المفترض هو أن لبنان الرسمي قال كلمته الموحدّة. وكان لهذه الكلمة بالفعل وقع خاص لدى اللبنانيين أنفسهم أولًا، ولدى الدول التي تهتمّ بخروج لبنان من أزماته المتراكمة ثانيًا. وقد يكون توحيد الكلمة في ملف الترسيم، وهو خشبة الخلاص الوحيدة، مقدّمة لتوحيد أشمل واعمّ وأعمق.
فإذا كان التوافق اللبناني على الطروحات الأميركية الأخيرة غاية في حدّ ذاته فهو ناقص، ولن ينتج فرجًا وفرحًا شاملين، على أهمية هذا الإنجاز، الذي كثُرت توصيفاته. فالأهم من هذا التوافق، الذي وصفه البعض بـ”التاريخي”، أن يتدرّج ليصبح توافقًا على الملفات العالقة، ومن بينها كأمر ملحّ، التوافق على تشكيل حكومة كاملة المواصفات وبمعايير موضوعية، كمقدمة لازمة للتوافق لاحقًا على رئيس للجمهورية يكون همّه الأساسي، وربما الوحيد، توحيد كلمة اللبنانيين على إنقاذ بلدهم من الغرق أولًا، ومن ثم توحيد كلمتهم حول قضايا سياسية وإقتصادية وإجتماعية عالقة، وتحتاج إلى الحدّ الأدنى من وحدة الصفّ والكلمة ثانيًا، للإنتقال في مرحلة التعافي إلى طرح الأمور الخلافية على بساط البحث لمعالجتها من منطلقات وطنية جامعة.
فإذا كان التوافق سيقتصر فقط على مقاربة ملف الترسيم، فإن فرحة اللبنانيين لن تصل إلى “قرعتهم”، وستبقى منقوصة ومبتورة، لأن المطلوب اليوم قبل الغد التفاهم على الوسائل، التي من شأنها أن تُكمل فرحة اللبنانيين. ومن بين المسائل المهمّة والملحّة اليوم التوافق على حكومة لا يكون فيها “غالب ومغلوب”، ولا يكون للكيدية السياسية فيها مكان.
فإذا لم يتوصّل المسؤولون إلى هذا التفاهم، والمقصود بالمسؤولين هنا هم مَن في يدهم مفتاح الحل، فإن ما نسمّيه بـ”إنجاز تاريخي” يبقى من دون مفعول يتناسب مع ما يتطلع إليه جميع اللبنانيين، سواء أكانوا ينتمون إلى هذا الفريق أو ذاك، مع العلم أن مَن يسعى، وبتجرّد كلي، إلى أن تبصر الحكومة المنتظرة النور اليوم قبل الغد، ليس طرفًا في مواجهة أي طرف آخر. وقد تكون هذه النقطة موضع قوة، لأن مَن لا يزال يؤمن بأن لبنان قادر على الخروج من أزماته، على رغم صعوبتها، يستطيع بفعل إيمانه أن يوصل السفينة إلى برّ الأمان.
الذين راقبوا بحكمة وتودّة ما جرى في الأيام الأخيرة، التي سبقت التوافق النهائي على مسودّة ملف الترسيم، يعقدون الآمال العريضة على إمكانية الإقتراب الموضعي من بداية الوصول إلى الأمتار الأخيرة من نهاية درب الجلجلة.
وعليه، فإن فرحة اللبنانيين، وكل على طريقته الخاصة ولأسباب متعدّدة ومختلفة، ستكتمل قبل نهاية ولاية العهد الحالي، ليبدأوا مرحلة جديدة تقوم على المصارحة فالمصالحة. فمن دون هذه المصارحة تبقى المصالحة بعيدة المنال، ويبقى كل فريق معلقًّا بـ”قرعوبه”، ويبقى التناحر والنكد السياسي يراوحان مكانهما، ويعود اللبنانيون من جديد إلى الدوران في حلقة جهنمية مفرغة إلى قيام الساعة.