نساء الرسامة سنا أتاسي يحدقن إلى السماء
تقدم الرسامة السورية سنا أتاسي في معرضها الدمشقي الجديد وهو بعنوان “مرآة الروح”، مقاربة تشكيلية مختلفة للمرأة بوصفها كائناً وذاتاً، وترسم مجموعة من النساء الواقفات اللواتي يرمقن السماء.
ذهبت الرسامة سنا أتاسي (حمص – 1978) إلى الاستعانة بالمرأة كموضوع في معرضها الجديد “مرآة الروح” (جوليا آرت – دمشق)، فقدمت 15 لوحة (أحجام مختلفة – أكرليك على قماش)، مكملة مسيرة عدد من الرسامات السوريات اللاتي جعلن جسد المرأة وحضورها الأنثوي مساحة بصرية مغايرة للسائد في أعمال الفنانين، تعتبر الأتاسي استمراراً لعدد من فنانات المحترف التشكيلي السوري، الذي شهد بزوغ مواهب نسائية في التصوير منذ ستينيات القرن الماضي، مثل رمزية الزمبركجي ونعمت البيطار وإقبال قارصلي وليلى نصير وليلى الخانجي، إضافة إلى كل من أسماء فيومي ولجينة الأصيل وهند زلفة وغريتا علواني وأميرة السقا وليلى عابدين وسمر شما.
تتابع سنا مسيرة جيل من رسامات سوريات وعربيات وقع على عاتقهن تغيير الصورة النمطية التي كرستها النزعة الاستشراقية لرسامين غربيين قدموا نساء الشرق في إطار حرملك أروتيكي، وجاءت أعمال بعض منهم على هيئة لوحات صورت مدناً مثل دمشق والقاهرة والقدس وبغداد كحمامات ومخادع وملاه لجواري وإماء وحريم.
تقدم أتاسي نساءها بالحجم الطبيعي تقريباً واقفات أو جالسات أو شاخصات نحو الأفق، مما يجعل الزائر للمعرض يشعر وكأن عيون تلك الشخصيات النسائية تحدق به وتتابعه وسط غلالة من ألوان الأزرق والأحمر والزيتي والأبيض والتركواز. ما يلفت النظر أيضاً هو العمل على الخلفيات والتأسيس الذي يوضح دسامة اللون وسماكته تبعاً للموضوع، الذي انحصر هنا في أعمال حملت عناوين من قبيل “جلسة فلسطينية” و”ليلة قمرية” و”بحر الدم” و”عشق” و”شوك” و”تفاحة متعفنة”، وجميعها تناولت المرأة الفلسطينية التي رسمتها سنا كوجه آخر لمآسي شقيقتها المرأة السورية في الحرب، إذ عمدت ابنة مدينة حمص إلى تكييف الزي الفلسطيني التراثي ليصبح أحد أبرز مناخات معرضها الدمشقي.
عملت الرسامة السورية على توزيع صارم لنسب الضوء والظلال مشتغلة على تقنية التقريب والتبعيد بين مقدمة اللوحة وخلفيتها، فلم تكتف بالموضوع كحامل لأعمالها، بل انكبت لمدة أكثر من أربع سنوات لإنجاز أعمال ذات تقنية تعتني بالتفاصيل، وذات طابع تشكيلي معاصر مزجت فيه بين الواقعية والتعبيرية، فاتكأت على عمق لوني ثري تقف النساء أمامه وخلفهن مدن محترقة وخاوية على عروشها، وذلك كما في لوحتها “مدينة عارية”، إذ يتماهي جسد المرأة نصف المكشوف والمغطى برداء أزرق مع سماء مكفهرة وبيوت مهجورة تظهر في خلفية المشهد.
قامت أتاسي بتوظيف عناصر عديدة في لوحاتها كالديك والخروف وثمار الرمان والبرتقال والتفاح وأغصان الزيتون والسكاكين ومفتاح العودة، وحاولت عبر هذه العناصر أن تجترح مستويات رمزية للدلالة على قسوة الحرب في كل من قطاع غزة وسورية على حد سواء، فنقلت مشاهد من المأساة الفلسطينية المعاصرة، كما في لوحتها “ليالي العيد” التي يظهر فيها طفل يبيع بوالين ملونة وخلفه تبدو مدينة رمادية شبه مدمرة، فيما قامت سنا بنفي الرجل من أعمالها، لتنتصر لمجاميع من نساء تقطر أعينهن حسرة ولوعة وحزناً، وهذه إشارة ربما من الرسامة السورية إلى توجيه إدانة للرجال من كل الأطراف وانتصار للمرأة وعذاباتها، ودلالة على أن حروب الرجال لم تبق غير نساء مشردات تحت ضوء القمر.
التكوين التام
تبدو نساء أتاسي الرومانسيات في عراء تام التكوين، وكأنهن مبعدات عن بيوتهن ومدنهن وغارقات في الأسى والسكوت، ويتوضح ذلك في تصوير تراجيدي لتلك النسوة الجميلات المشردات والهائمات على وجوههن، أو من تلك الإيماءات الرقيقة لوجوههن وهن يتدثرن بأردية ذات ألوان زرقاء أو حمراء، أو يلوحن بأديهن تلويحات وداع أخير، أو يضممن أنفسهن كما في لوحة “زيتون” و”شمعة محترقة”.
وتبدو لافتة إفادة سنا من تكوينات مدينة حمص القديمة في أعمالها، ولاسيما حجر البازلت الأسود الذي اشتهرت به البلدة ذات الطراز العمراني الخاص، وهذا ما يظهر في خلفية معظم لوحاتها، إذ تعتبر حمص مهد ذاكرة الفنانة السورية ومرتع صباها الأول، الذي لم يفارق مخيلتها منذ هجرتها عن مسقط رأسها، لاسيما بعد أن أتت الحرب على معظم معالم مدينتها، إذ تحاول استعادة معالمها ما قبل سنوات الكارثة السورية، لاسيما أبوابها ومساجدها وكنائسها وأسواقها الأثرية الساحرة، من مثل باب دريب وباب تدمر وباب السباع وكنيسة أم الزنار وجامع خالد بن الوليد.
وعمدت سنا إلى تجسيد درامي لشخصياتها كمواكب طويلة من نساء يعشن طقس حداد أزلي وصامت، ويتوضح ذلك في لوحة “مدينة باردة”، التي تظهر فيها نسوة مغمضات الأعين يضعن أيديهن على صدورهن شبه المكشوفة، أو ينحنين بخصورهن الضامرة نحو الأرض وأغصان الأشجار برقة وعذوبة، في حين نلاحظ استغلال الفنانة لكامل مساحة اللوحة لتحقيق توازنات بصرية لافتة، وهذا ما يمكن تأويله في سياق رغبة الأتاسي لإنجاز أعمال أقرب إلى منمنمات تتواجه فيها وجوه نسائها مع المتلقي، فيما يدرن ظهورهن لمدنهن المحترقة في خلفية المشهد، وكأن سنا تريد أن تصور مظاهرة لاحتجاج نسائي صامت ضد العنف والموت والقتل العبثي وخراب الأوطان.
وهنا لابد من التذكير أن سنا أتاسي وعبر اشتغالها المتعدد في فن الغرافيك والإخراج السينمائي، وظفت هذه الخبرات في عملها التشكيلي، ومنحت مستويات أكثر ثراء لشخوصها من خلال لمسات أنثوية ذات تأثير غير قليل على المتلقي، وهذا ما يمكن ترصده في الجمع بين أعمال الديكور والزخرفة من جهة، وبين اللوحة كأداة من أدوات التعبير عن لواعج النفس ورفضها للامتثال والخضوع لقيم مجتمع الحرب، فالنزعة التزيينية وتوظيف جسد المرأة لم تكن على حساب جودة العمل، بقدر ما كانت لإبراز مهارات في التلوين والعمل على خطوط لينة ومنحنية، وذلك من دون التخلي عن القيم البصرية والجمالية الأساسية في صياغة العمل التشكيلي.
المصدر : عربية Independent