الكلّ يسعى الى فتح صفحة جديدة مع بايدن
انتهى موسم التمنيات والمراهنات دولياً وعربياً، وانتُخب جو بايدن، فتتالت التهاني بأسبقيات متفاوتة. اعترف العالم بنتيجة الانتخابات بناء على وسائل الاعلام الأميركية، التي عملت كالعادة استناداً الى فرز الأصوات. وأبدى العالم تجاهلاً واضحاً لعدم اعتراف دونالد ترامب بهذه النتيجة أو لإصراره على أن الانتخابات “لم تنتهِ” وأنه مستمر في معركة قضائية لن تفضي الى أي تغيير. كانت لدى أنصار ترامب فرصة لتنفيذ تهديداته السابقة، بعدما طلب وقف عدّ الأصوات، أو لعمل تخريبي لإلغاء الاقتراعات “غير الشرعية” في عدد من الولايات، لكنهم في سياقٍ كهذا كانوا سيلقون ظلالاً على الانتخابات بمجملها، بما فيها اعلان ترامب انتصاره مبكراً.
كانت المواقف المسبقة، في هذه العاصمة وتلك، عبّرت بشيء من الدبلوماسية، أو حتى بصمت، عن مراهنة على رئاسة بايدن وتطلّعات مبكرة الى “ما بعد ترامب”. جاء أكثرها وضوحاً من جان ايف لودريان الذي أشار الى “خلافات الأعوام الأربعة الماضية” وروّج لفتح “صفحة جديدة” في العلاقات عبر الأطلسي، لكنه شدّد على أن تلك الخلافات دفعت أوروبا الى تأكيد “استقلاليتها الاستراتيجية” في مجالي الدفاع والأمن. وإذ شاركت المانيا هذا الموقف الفرنسي بلهجة لم تخفِ الاستياء العميق من الفتور والتوتر اللذين فرضهما ترامب على العلاقة معها، فإن الدولتين أرادتا إبلاغ بايدن أن لا عودة الى الماضي كما كان ويُفترض أن لا تكون هناك عودة الى سياسات ترامب التي تفكّك وقائع ثابتة ولا تطرح بديلاً منها.
وفيما ملأ الاستراتيجيون الفضاءات والصفحات بتوقعات عن “مواجهة حتمية” بين اميركا والصين، في حال استمرار ترامب رئيساً، فإن بكين أحجمت عن التعليق على الانتخابات. ولعلها تتوقع الآن بدورها صفحة جديدة مع واشنطن، إذا جنح بايدن الى الدبلوماسية. لكن سياسة ترامب لم تكن عداء للصين فحسب، حتى لو غلظت لهجته حيالها بعد وباء “كوفيد 19″، بل كانت محاولة لتعديل الميزان التجاري معها، وهو ما حاولته سابقاً إدارة اوباما وستعاود إدارة بايدن العمل عليه، لكن بعيداً عن الأسلوب الترامبي الفظّ.
أما روسيا فحافظت على تفضيل فلاديمير بوتين ضمناً للرئيس الجمهوري رغم أن مكاسبه معه لم تكن بأفضل مما كانت مع سلفه باراك أوباما. كان بوتين عدّل الدستور الروسي، قبل خمسة شهور، ليتمكّن من البقاء في منصبه حتى 2036، لكن ذلك لم يمنع الخارجية الروسية من تسجيل مآخذ على النظام الانتخابي الأميركي، كما لو أنها تسترشد بالتقويم السلبي لـ
“الديموقراطية الغربية” كنظام سبق لبوتين أن اعتبره جامداً وغير فاعل. السائد أن الرئيس الروسي تطلّع الى أن تساهم تخبّطات ترامب وإضعافه لأميركا، خصوصاً في ولايته الثانية، في تثبيت “نظام دولي جديد” متعدّد القطبية. أما الآن فلا بدّ من أن تعترف براغماتية بوتين بأن النظام الجديد سيبقى مشروعاً قائماً لكنه مؤجّل، متلاقيةً في ذلك مع وزير الخارجية الإيراني الذي قصد فنزويلا المأزومة ليعلن منها أن الولايات المتحدة تخشى “ظهور قوى جديدة” وتحاول منع تغيير النظام الدولي “باستخدام الإرهاب ضد إيران وفنزويلا وكوبا والصين وروسيا وسوريا”، أي ضد الدول التي تعتبرها طهران عماد النظام الجديد.
بدأت إيران رهانها على رئيس ديموقراطي في البيت الأبيض منذ أعلن ترامب (8 أيار/ مايو 2018) انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. وفي السنة الحالية التي افتُتحت باغتيال أميركي للجنرال قاسم سليماني أصبح الرهان تخطيطاً وعملاً لتأمين هزيمة ترامب، فتحدثت طهران عن اغتيال موازٍ ثأراً لسليماني وحضّت وكلاءها على تحدّي الوجود العسكري الأميركي في العراق وبذلت محاولات لاختراق الانتخابات الكترونياً. لم تُجدِ جهودها، لكن الاقتراع الأميركي حقّق النتيجة التي توخّتها فكان تعليقها: “الإيرانيون صمدوا الى أن رحل ترامب”. غير أن ظروف 2015 تبدّلت كثيراً بالنسبة الى إيران.
اتّخذت الضغوط “الترامبية” القصوى حجماً غير مسبوق على الداخل وعلى “مناطق النفوذ”، وأصبحت العقوبات الشديدة بمعظمها قوانين تحظى بقبول من غالبية الديموقراطيين والجمهوريين. لذلك خلص المرشد علي خامنئي الى أن السياسة الإيرانية “المعقولة والمحسوبة والمحدّدة”، كما وصفها، “لا تتأثر” و”لا تتغيّر” بتغيّر الرئيس في اميركا. عاد خامنئي الى التمترس وراء موقفه من واشنطن كما عبّر عنه بعد أسابيع قليلة على توقيع الاتفاق النووي. بل إنه لا يزال راسخاً في موقفه الأيديولوجي، إذ انتهز ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في طهران وأخذ موظّفيها رهائن (تشرين الثاني/ نوفمبر 1979) ليقول إن “هجوم الطلاب على وكر الجواسيس كان ملائماً تماماً وعملاً حكيماً”. هذا أسوأ استقبال إيراني للرئيس بايدن الذي تأمل طهران بأن يخفف عنها العقوبات. أما الرئيس حسن روحاني فلم يحاول التمايز عن مرشده بشيء من “الاعتدال”، لكنه لم يستطع إخفاء أن إيران “عاشت أسوأ أيامها” في فترة ترامب. لذا فهو دعا بايدن الى “التعلّم” من هذه التجربة، لكن ما تعلّمه الرئيس المنتخب فعلاً هو أن طهران خذلت أوباما فعاقبها ترامب، وإذا كانت تتوقّع منه سياسة مختلفة تبدأ بالعودة الى مربع الاتفاق النووي فإنه يتوقّع أن تكون العقوبات علّمتها شيئاً كي تأتي الى التفاوض بنيّة فتح “صفحة جديدة” مع واشنطن.
لم تعانِ تركيا من عقوبات في عهد أوباما بل أحبطها إصرار ادارته على كبح طموحها، تحديداً في سوريا لتوسيع نفوذها. وبالمقارنة فإن إدارة ترامب فتحت أمامها مجالات واسعة، لكن بضوابط وشروط، وكانت بداية التدخّل الفعلي في سوريا بضوء أخضر من بوتين، وما لبث تقاطع المصالح أن منح أنقرة أكثر من ضوءٍ أخضر اميركي معلن في شمال سوريا أو غير معلن كما في ليبيا (لموازنة التدخّل الروسي) أو في ناغورنو كراباخ حيث تدعم حرب اذربيجان متجاهلةً استياء بوتين، أو حتى في شرق المتوسط حيث تواصل المناورات والتنقيب عن الغاز ولم تبدِ واشنطن ممانعة قاطعة لتحدّيها الاتحاد الأوروبي… ستسعى تركيا الى تثبيت مكاسبها وتحصينها لكن جوانب عدّة منها ستخضع للمراجعة مع إدارة بايدن، حتى في سوريا إذا ارتسمت معالم “تسوية” بين واشنطن وموسكو.
أخيراً، ماذا عن الالتباس الذي حصل عربياً بين المرشحَين. لا شك في أن مواقف ترامب من إيران كانت موضع ترحيب وربما تُفتقد مع بايدن، رغم أن الترامبية حدّدت معايير يصعب تغييرها للتعامل مع هذا الملف ما لم يكن هناك استعداد إيراني للتسوية. أما “صفقة القرن”، كخطة حل نهائي الصراع العربي – الإسرائيلي، فليس متوقّعاً أن أن يتبنّاها بايدن بكل مندرجاتها، لكنه وفقاً لسوابقه سيحافظ على مصالح إسرائيل. وبين هذين الصراعَين يسود انطباع عربي عام بأن شيئاً جوهرياً في المنطقة لن يتغيّر في واشنطن مع الرجل الجديد – القديم في البيت الأبيض. وبالتالي تكثر التساؤلات عما يمكن أن تحمله إدارة بايدن للسوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين والليبيين، وكانت أزمات بلدانهم اشتعلت وتفاعلت خلال عهد أوباما، واستمرّت مع ترامب بمآلات مختلفة. فهل من “بايدنية” تطرح سياسات تصحيحية ووسطية بين “الترامبية” و”الاوبامية”، ولأي أهداف؟