نخيل الكاميرون المنهوب”.. استثمار أم استعمار
عليك الاختيار بين الأمرين فلا يمكن أن تزرع زيت النخيل وفي الوقت ذاته تحافظ على الغابات. في غرب ووسط القارة السمراء حيث موطن زيت النخيل الذي تدر صناعته عالميا أكثر من 43 مليار دولار سنويا؛ يوفِّر المناخ الملائم والإرادة السياسية قاعدة صلبة للاستثمار، مما أغرى الشركات العالمية لتوجه أنظارها إلى هناك.
تحوز ماليزيا وإندونيسيا حصة الأسد من الإنتاج العالمي لزيت النخيل، ويبلغ إنتاجهما السنوي منه نحو 85% من الإنتاج العالمي، وقد لعب الاستثمار الصناعي والتجاري فيه دورا كبيرا في نمو الدولتين ونهضتهما.
وعلى الرغم من الآثار السلبية الهائلة لهذه الصناعة على الغابات البكر، فإن التقدم الذي حدث هناك -ويراه البعض أكثر إيجابية من أي آثار أخرى- أغرى دولا في أفريقيا لها نفس الظروف المناخية لتخوض التجربة نفسها.
هذا الفيلم الذي أعدته الصحفية “نيهدي دوت” وعرضته الجزيرة بعنوان “نخيل الكاميرون المنهوب”، يقدم صورة تقريبية لتجربة أفريقية في مجال زراعة زيت النخيل، إنها الكاميرون أرض النخيل المنهوب.
نصيحة تحولت لشرارة
بداية القصة كانت نصيحة قدمها باحث أميركي في اجتماع مع الكاميرونيين، قال لهم فيها: إن لم تهتموا بغاباتكم وتحافظوا عليها سينتهي بكم المطاف لتصبحوا مثل ماليزيا وإندونيسيا.
من حيث أراد التحذير كانت شرارة البدء، خيّم الصمت على الجميع، فهذا ما كانوا يحلمون به بالفعل، أن ينمو بلدهم ويتطور مهما كلف الثمن.
أعلن الرئيس بول بيا (انتُخب لولاية سابعة في أكتوبر/تشرين الأول 2018) أن هدفه أن تصبح الكاميرون اقتصادا ناشئا بحلول عام 2035، على أن تلعب الأعمال الزراعية دورها الهام في تحقيق ذلك، وكان يهدف إلى أن تصبح بلاده “سلة خبز أفريقيا”، وهو ما يتطلب تطوير الزراعة وصيد الأسماك وغيرها.
على أثر ذلك، قدمت شركة استثمارية في “وول ستريت” تدعى “هيراكليز كابيتال” مقترحات بإقامة مزارع بدل الغابات في الكاميرون، وأسست شركتين هما “هيراكليز فارمز” و”س.جي سوك” من أجل الاستثمار في مشاريع كبيرة، باعتبار أن زيت النخيل الذي يستورد من ماليزيا وإندونيسيا مصدره غرب أفريقيا.
وعود وردية لم تنفذ
وعدت الشركة الأم السكان بمشاريع تنموية تعود بمنافع عليهم وتوفر لهم فرص العمل وتخرجهم من حالة الفقر والعوز التي يعيشونها، وأطلقت بالاشتراك مع جمعية خيرية مبادرة “زيت النخيل لمحاربة الفقر”.
وضع “بروس روبل” الرئيس التنفيذي لشركة “هيراكليز فارمز” (وهو أيضا الرئيس التنفيذي لمؤسسة “كله من أجل أفريقيا –All for Africa” الخيرية) خططا تنموية واجتماعية في المنطقة المقترحة، وقد قوبلت هذه المقترحات بالرضا محليا على المستوى الرسمي والشعبي، فقد قامت مؤسسته الخيرية في الماضي بتمويل مدارس ومستشفيات وآبار، وحصلت هذه المشاريع على دعم من الرئيس الأميركي الأسبق “بيل كلينتون”.
بدأ الاستثمار في غرب أفريقيا للشركة بنحو 900 مليون دولار، وقد بدت فرص النجاح في البداية جيدة. كانت المبادرة الأولى تقضي بزراعة 60 ألف هكتار، وهي مساحة إجمالية مخصصة للصناعة الزراعية في الكاميرون، لكن الأمر ليس بتلك السهولة.
مخاطرة الكاميرون الكبرى
يكمن مأزق الكاميرون بشأن زيت النخيل، في أنه إذا سارت الأمور بشكل جيد مع الاستثمار الأجنبي، فإن ذلك سينتج ضرائب على الطرق والصحة والتعليم، وإن لم تسر الأمور حسب المخطط لها فلن تكون المشكلة فقط على الكُلفة البيئية، بل إنه يشبه تجريد بلد من أصوله ليصب المال في خزائن الشركات متعددة الجنسيات.
ومع أي مشروع تنموي كبير، هناك العديد من المعايير والقواعد التي يتعيّن تطبيقها، وهنا يعمل مركز التنمية الاقتصادية “مكنايت نغواسي” للتأكد من التزام شركات الصناعات الزراعية الكبرى بهذه المعايير، واتباع أفضل الممارسات عند التعامل مع المجمعات السياسية والحكومات المحلية والمسؤولين المحلين.
وُضعت خرائط من أجل مسح الأرض داخل منطقة الامتياز المقترحة لزيت النخيل وحولها، لكن تبين أن أراضي هيراكليز كابيتال في المنطقة الجنوبية الغربية من الكاميرون تقع بين خمس محميات طبيعية، وهي منطقة عبور للفيلة، فإذا اجتثت الأشجار فإن الفيلة ستكون في خطر داهم، كما أن المنطقة ليست مجرد مساحة خالية، بل هناك قرى وسكان في الداخل.
يقول الموظف في مركز التنمية الاقتصادية صموئيل ناغوغو: نحن نضع الخرائط لمعرفة من هو في دائرة الخطر، وما الذي سيُفقد، ونعدها على أساس المرسوم.
كشف المستور.. الصفقة المغبونة
كان مرسوم تأجير الأرض للشركة بأمر رئاسي، ففي عام 2009 وقع الجانبان على الاتفاق المسمى باتفاقية الإنشاء، وقد حُددت فيه إيجارات الأراضي والضرائب، وشروط ممارسة الأعمال التجارية في البلاد، وتم التوقيع عليها سرا تحت بند ينص على الكتمان، ولكن في عام 2012 تم تسريب الاتفاقية من مصدر مجهول وهكذا أصبح الاتفاق واضحا.
وينص العقد الرسمي بين الطرفين على أن المستثمر يتمتع بالإعفاء الضريبي الكامل من جميع الضرائب والرسوم لمدة عشر سنوات من بداية الإنتاج، أي غياب تام للضرائب التي تعتبر مصدرا أساسيا للدخل في البلاد، ووقّع العقد وزير الاقتصاد الكاميروني الذي له صلة مصاهرة مع الرئيس الكاميروني بول بيا.
يقول ناغوغو: عندما كشف مضمون الاتفاق تبين أن مساحة الأرض 73 ألف هكتار، وبكلفة نصف دولار أو دولار واحد فقط للهكتار الواحد.
ويضيف: بكل المقاييس كان اتفاقا مذهلا، فمقابل 70 ألف دولار تمكنت شركة “هيراكليز فارمز” من اكتساب أراضي بالكاميرون تقدر كلفة المساحة المماثلة لها بإندونيسيا بسبعة ملايين دولار على الأقل، كان ذلك بمثابة رخصة لطبع العملة في طرح سري للمستثمرين المحتملين، والأكثر استهجانا أن ثمن الأشجار المقطوعة وحدها قُدر بـ(60 إلى 90) مليون دولار أميركي.
التفاوض مع السكان.. الرهان الخاسر
مع بدء مراحل العمل الأولى، بدأت الشركة بالتفاوض مع أولئك الذين سيتم اجتثاث أراضيهم من أصحاب الأملاك الصغيرة والقرويين من منطقة نغوتي جنوب الكاميرون، ومازال جاريا العديد من تلك المفاوضات التي تهدف شركة “هيراكليز” من خلالها إلى إقناع الناس بأن للمزارعين فرصا في الأعمال التي ستجلب لتلك المنطقة، لكنهم يشعرون أنه من الأفضل لهم أن يبقوا مزارعين أصحاب أراضٍ وأملاك صغيرة من أن يكونوا عمالا فيها.
ويرى المنتقدون أنه بسبب هذا الاتفاق سيفقد سكان التجمعات المحلية في كافة أرجاء المكان رزقهم وأراضيهم وثقافتهم، فقبل وجود الشركة لم تكن هناك حدود للغابة، وكان السكان المحليون يستصلحون الأراضي ويتملكونها ويزرعونها، ويعيشون من خيرها، لكن ذلك لم يعد ذلك ممكنا مع وجود الشركة.
كان من الممكن أن يحصل مالك صغير يبيع منتجه بالأسواق المحلية على أربعة أضعاف ما يمكن لعامل في مزرعة أن يكسبه.
التوعية.. تحريض على العصيان
يتحدث عدد من السكان عن رفضهم بيع أراضيهم للشركة، وقالوا إن الحكومة لا تهتم لشأنهم، لأن الشركات التي تجلب المال “كل ما يفعلونه هو خداعنا، والحكومة لا تفعل شيئا”.
وعلى الرغم من أن المفاوضات لم تكتمل بعد، فإن أعمدة السياج ترتفع وتطوِّق الأماكن المحتملة لمزارع زيت النخيل، والعديد من التجمعات السكانية لم تستشر بشكل واضح بشأن كيفية تأثر غاباتها بأنشطة الشركة.
قامت منظمات غير حكومية بالدفاع عن حقوق المزارعين.
دومينيك نغويسي من منظمة غير حكومية تسمى “نيتشر كاميرون” يؤكد أن هذه الشركة لا تفعل شيئا للتجمعات السكانية، وحذر السلطات من أن هناك جيلا صاعدا من الكاميرونيين يتمسك بأرضه، لكن الحكومة منعته من لقاء السكان، بحجة أنه يحرض على العصيان المدني.
فساد ورشوة وانتحار
في أواخر عام 2012، وردا على الانتقادات المتزايدة لشركة “هيراكليز”؛ قال رئيسها “بروس روبل”: إن المشروع لديه القدرة على إنعاش منطقة فقيرة ومتخلفة من البلاد، وجلب منافع اقتصادية واجتماعية وبيئية هامة للناس من حولها.
ولكن بحلول فبراير/شباط عام 2013 كانت المعارضة للشركة تزداد زخما، حتى أن تقريرا أُعد لوزارة الغابات والحياة البرية الكاميرونية زعم أن موظفي “هيراكليز فارمز” استخدموا الرشوة والهدايا النقدية ووعود التوظيف، للحصول على الدعم من المنطقة لمشروعهم، وعلى الرغم من الاحتجاج الصارخ في أواخر عام 2013 أقدم الرئيس الكاميروني على توقيع المرسوم اللازم لمنح الشركة عقد إيجار الأراضي، ولكن تم تعديل الشروط، فقد وجدت الحكومة طريقة لإعادة التفاوض على الصفقة بأكملها، وذلك بتقليل المساحة إلى حوالي عشرين ألف هكتار بعد أن كانت 73، مع زيادة الضرائب.
بعد شهر أقدم “بروس روبل” على الانتحار في نيويورك، وقال المقربون منه: ليست مشاكل “هيراكليز فارم” السبب الوحيد في محنته، لكنه أخذ الانتقادات على محمل شخصي.
وبعد وفاته أُغلقت مؤسسته الخيرية، وغابت خططها الاجتماعية وآمال الرفاه التي رافقتها، وفي الوقت ذاته واصلت الشركة اجتثاث الأشجار وما تزال الأخشاب تُباع.
رُب ضارة نافعة
من المفارقات أن قضية “هيراكليز” دفعت لاستخدام طرق أخرى أكثر استدامة لصناعة زراعة زيت النخيل في الكاميرون، وضغطت القضية على الحكومة لإيجاد بدائل عن الاستثمار الأجنبي يستفيد منها صغار المنتجين.
توجد الآن سياسة جديدة معروفة باسم “الاستراتيجية الوطنية لزيت النخيل” تضع قيودا على مساحات الأرض التي يسمح لأي شركة باستخدامها، ويعمل المزارعون بجهد كبير انطلاقا من هذا المخطط، ويُمنح لهم الدعم لشراء الأراضي، كما تُمول المطاحن الجديدة والتي تشتري لب ثمار النخيل بسعر محدد.
يقول بعض المزارعين: يجب أن نساعد حكومتنا للحد من الفقر.
يمكن لمزارع يملك خمسة هكتارات كسب 3500 دولار سنويا، لكن مزارعا مثل “جان بول” الذي يملك 200 هكتار يصل مكسبه السنوي لربع مليون دولار، بفضل التجهيزات التي يمتلكها.
حاليا تستورد الكاميرون زيت النخيل من آسيا، لكن مع توفر عدد كاف من المزارعين أمثال جان بول يصبح الهدف عكس ذلك؛ أي البدء بالتصدير.
يقول باتريس ليفانغ: قبل خمس سنوات لو قلت أشياء جيدة عن زيت النخيل لغضب الناس، وربما رشقوني بأحذيتهم، لكن الخطاب تغير، ما نحتاجه هو وجهة نظر متوازنة.
لذا فإن دعم المزارعين الصغار ماديا، ودعم المطاحن التي تشتري لب النخيل بسعر محدد وتمويلها، يساعد في الحد من الفقر، ويثبت أن الكاميرونيين دائما بحاجة لأراضيهم لتحقيق أمنهم الغذائي.