اعتمدت الإساءة لرسول الإسلام وأجّجت فظائع محاكم التفتيش وأسست لليمين المسيحي المتطرف (جذور ظاهرة الإسلاموفوبيا بالأندلس.. )

من المعروف بين المهتمين بالدراسات التاريخية المقارنة أن تجربتيْ الحروب الصليبية بالمشرق الإسلامي والتعايش الديني بالأندلس كانتا خطوط تماسّ ساخنة بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية، وأن الكثير من مواريث الصور النمطية والذهنية المتكوّنة حديثا عن الإسلام -ولاسيما عند الأوروبيين- لها ظلال تاريخية وجذور داخل ذلك اللقاء الصاخب، الذي تمّ سِلْما في لحظات كثيرة من تاريخ الأندلس الإسلامية، أو في خضمّ الحروب الطاحنة التي دامت قرنيْن في أكناف بيت المقدس.

وإذا كانت الحضارة الإسلامية اشتهرت بأنها تضع التعارف الحضاري سمة بارزة في منهجها؛ فإن التعرف على مواضع الخلل التاريخي تظلّ أولية كبرى داخل سمات هذا التعارف، فمن المفيد معرفيا أن ندرك أن الكثير من جذور الظواهر الحالية التي تدعو إلى الصدام بديلا عن الحوار والتعايش لها جذورها القديمة، وأن بعض الحركات المسيحية المتطرفة التي نشأت ببلاد الأندلس قد تكون إحدى الحواضن الثقافية التي يستمدّ منها فكرياً اليمينُ المسيحي المتطرف المنتشر اليوم بأوروبا، خصوصا على صعيد التصورات والموقف العدائي من المختلف.

ثم إن استقراء تلك التجربة قد يكفينا عناء تكرار الأخطاء والمصائر الدامية بين الحضارات؛ فجزء كبير من وحشية محاكم التفتيش الكنسية تجاه المسلمين -بل واليهود أيضا- كان سببه تلك الصور الشائهة عن الآخر المختلف دينيا، وبمعنى أوضح لعبت فيه الاسلاموفوبيا المبكرة حينها دورا كبيرا تحريضا وتسعيرا.

وهذا المقال يسعى لتسليط الضوء على تجربة الأندلس المسلمة مع نمط من الإسلاموفوبيا تبنّته حركات مسيحية متطرفة؛ فاعترض عليها طيف واسع من مرجعيتها الكنسية والقيادات الرعوية المسيحية، وعدّها مساسا بتجربة التعايش السلمي الأهلي في البلاد بين مكوناتها المسلمة والمسيحية واليهودية، فدعا لتجفيف منابع هذه الكراهية.

وقد رأى فيها كذلك المشرِّعُ الإسلامي الأندلسي ضررا بالغا بالأمن الاجتماعي؛ فوضع لذلك نظاما جزائيا يناسب عصره ويُجرِّم الإساءة إلى المقدسات والرموز الدينية لكل الأديان، ولا يفرق في العقوبة بين مسلم يسيء أو مسيحي يزدري. وهو أمر تفتقده الكثير من الدول حاليا مما يجعل الفراغ التشريعي الرادع عن ازدراء الأديان مدخلا لأي محاولات فردية منفلتة تضر أكثر مما تنفع. كما سنتطرق لإبراز مدى تنكُّر متعصبي المسيحيين الأندلسيين لإرث ذلك التسامح والاحترام -الذي قابلهم بهم المسلمون- إثر استعادتهم حكم البلاد، ونرصد سبل انتقال هذا الإرث إلى الجوار الأوروبي الذي وجد فيه بلسما لعلله المجتمعية وحروبه الدينية البينية.

اننا -في هذا المقال- لا نبحث عن التطابق بين الماضي والحاضر في نموذج الإسلاموفوبيا، ولا ندعو لتكرار ردود الفعل بين المسلمين والمسيحيين عبر تلك النقاط الساخنة؛ بل كلّ ما نأمله هنا هو التعلم من التاريخ من أجل دعم حوارِ الحضارات وتعارفِها بدلا من الاحْتراب والصراع، وتجنب ازدراء الأديان والمقدسات التي تؤجج هذه الحروب العسكرية والصراعات الاقتصادية التي تستنزف طاقات بالجميع!

تعايش مستفِزّ
شكَّل الموقع الجغرافي للغرب الإسلامي عموما مرتعا خصبا لتلاقح الحضارات والديانات وموطنا لتعارف الشعوب والأعراق؛ فكانت أرض احتكاك وساحة لاصطدام أو تعايش هؤلاء وأولئك، ولاسيما الأندلس التي كانت طوال ثمانية قرون عبارة عن مزيج خلّاق من الأديان والأعراق، فسادَها التسامح الديني والفكري في أغلب عهود الوجود الإسلامي فيها.

وقد أسال ذلك التسامح والتعايش مداد الكثير من الأدباء والفلاسفة عبر التاريخ، حيث أسهبوا في الحديث عن أنواعه وتجلياته. ويكاد المؤرخون -الأوروبيون والإسبان- يُجمعون على أن حكام الأندلس تبنوا مقاربة جديدة عَزَّ نظيرها في التعامل مع هذه التعددية منذ ظهور المسيحية في تلك البقاع. ولعل من أجمع ما ورد في ذلك مقولة المستشرق الفرنسي الكونت هنري دي كاستري (ت 1346هـ/1927م) في كتابه ‘الإسلام.. خواطر وسوانح‘ الذي أصدره قبل نحو 150 سنة: “لقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس حتى ساروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم قدماء الجرمانيين”!!

وكما رأينا في مقال سابق عن التأثير الأندلسي في الثقافة الإسبانية والأوروبية؛ فإن جهود التصدي لحركة التعريب التي تفشّت بين مجتمعات المسيحيين بالأندلس لم تقتصر على رجال فرادى من أعيان المسيحيين؛ بل انخرطت فيها جماعات مسيحية منظمة كانت إحداها حركة “الشهداء المتطوعين” التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وكان من قادتها القسّ يولوخيو القرطبي (Eulogius of Córdoba المتوفى 244هـ/858م)، لكن جهودها باءت بالفشل في صدّ مدّ التعريب والأسلمة؛ طبقا للمستشرق الفرنسي ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م) في كتابه ‘الحضارة العربية في إسبانيا‘، وأيضا كما سنرى من عرضنا هنا لأحداث هذه الحركة ومصيرها.

ففي غمرة اتساع نطاق الحريات الدينية بالأندلس التي ظلت -منذ الفتح الإسلامي سنة 92هـ/711م- مصونة بعهود مكتوبة؛ وجد المسيحيون واليهود الفرصة سانحة للاغتراف من معين الثقافة العربية الإسلامية، وليس أدل على ذلك من شكوى الأسقف ألفارو/ألبارو القرطبي (Alvaro de córdoba المتوفى 240هـ/854م) الذي كان أحد رجال الدين المسيحيين الذين نددوا بشدة بهذا الوضع، إذ استنكر لجوء الشبان المسيحيين إلى تعلم اللغة العربية وما دُوِّن بها من علوم إنسانية، كما جاء في وثيقة “الدليل المنير” (Indiculus Luminosus) التي كتبها سنة 240هـ/854م في ذروة أحداث “حركة الشهداء”!!

اعلان

وقد أورد شكاوى ألفارو هذا من تغلغل الثقافة العربية الإسلامية في أوساط المسيحيين -وخاصة شبابهم- المستشرقُ الإسباني آنخل غونثالث بالنثيا (ت 1368هـ/1949م) في كتابه ‘تاريخ الفكر الأندلس‘، وكذلك ذكره المؤرخ والمستشرق الإسباني خوان برنيت  (ت 1432هـ/2011م ) في كتابه ‘فضل الأندلس على الغرب‘.

وخلال تلك الشكاوى؛ وجّه ألفارو انتقادات لاذعة للإسلام ونبيه محمد ﷺ، وكان من السهل على هذا القس معرفة الشريعة الإسلامية نظرا لمعرفته بالعربية، لكنه أبى ذلك وكان باولو ألفارو رمزاً من الرموز الثقافية عند المستعربين وصديقا للزعيم الأبرز للحركة القسّ يولوخيو (Eulogio de Córdoba المتوفى 244هـ/858م).

وبعد فشل كل الجهود المبذولة لثني الشباب المسيحي عن تعلم الثقافة الإسلامية الأندلسية، لاسيما من قبل القسّيْن يولوخيو وألفارو؛ سلك هذان الرجلان طريق مهاجمة الإسلام بعينه، فبادروا إلى تأسيس ما أصبح لاحقا يُعرف بـ”حركة الشهداء”، فأخذوا يحرضون الشباب المسيحي ضد الإسلام ويسبّون نبيه محمدا ﷺ في الأمكنة العامة وفي المساجد والساحات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى