ملكت على شعبها طيلة سبعين سنة. كانت ملكة منذ اليوم الأول لإعتلائها العرش حتى النفس الأخير. في بداية البدايات لم تكن تريد هذا التاج، الذي ألبسوها إياه مكرهة. إستهابت تلك المسؤولية التي أولاها أياها النظام الملكي، وهي الوريثة المستحقّة لهذا التاج وذاك الصولجان، اللذين رافقاها حتى الدقائق الأخيرة من رحلتها الأرضية. ولكنّها تحدّت ذاتها وقبلت هذا الأرث الثقيل… ونجحت ودخلت التاريخ من بابه العريض.
الملكة اليزابيت الثانية، ملكة بريطانيا العظمى، عرفت النجاحات، وعايشت الخيبات. عاصرت أجيالًا من رؤساء الدول وملوكها وأمرائها. وكما عاشت ماتت. وفي مشوارها الملوكي في شوارع لندن، إخترقت الآفًا مؤلفة من البريطانيين، الذين ملأوا الشوارع لإلقاء النظرة الأخيرة على نعشها، الذي تهادى على تنهدات البريطانيات والبريطانيين وعلى أوتار حزنهم الصامت، الذي هو أقرب إلى الصلاة أكثر من أي شيء آخر.
لسبعين سنة، بلياليها ونهاراتها، تربّعت على عرش أعطته من ذاتها ولم تأخذ معها منه بعد رحيلها شيئًا. في هذه السنوات السبعين عايشت أجيالًا من أبناء وطنها. منهم من رحل؛ ومنهم من كان يافعًا يوم ملكت وقد أصبح كهلًا؛ ومنهم من ولد ولم يعرف ملكة غيرها. ملكت على قلوب مواطنيها قبل أن تملك وفق الأصول الملكية. أحبّت شعبها، وهو أحبّها. سبعون سنة ولم نسمع أن أحدًا تذمرّ من تصرّف غير لائق صدر عنها. سبعون سنة راكمت في خلالها اليزابيت هذا الكمّ من الحب، الذي رأيناه يتفجّر في يوم وداعها الأسطوري.
لم نسمع أحدًا من مواطنيها يقول إنه ينتظر الساعة، التي ترحل فيها. ولم نسمع من قال إن رحيلها اليوم قبل الغد هو خير لبريطانيا. ولم نسمع من يقول إن السنوات السبعين كانت عجافًا كما هي الحال في كثير من الدول، التي يمكن أن نعدّ منها العشرات، ولبنان واحد منها أو أبرزها.
بالأمس وقف البريطانيون بمئات الألوف على جوانب الطرقات، التي مرّ فيها موكب الرحلة الأخيرة، مطأطئي الرؤوس حزنًا وأسفًا وإجلالًا وإحترامًا. طوابير بشرية طويلة لوحّت لها بالأيدي البيضاء. لم يقفوا مجبرين. لم يقفوا بدافع الواجب. لم يقفوا ساعات طويلة من الإنتظار خوفًا أو مهابة، بل وقفوا بكل عزّة وإباء ليس إلاّ بدافع حبّ لملكة عاشت هذا الحبّ على إمتداد سنيّها الطويلة.
لم يقفوا كما يقف اللبنانيون في طوابير الذلّ أمام المستشفيات والصيدليات والأفران ومحطّات المحروقات. حزن البريطانيون، إلى أي حزب إنتموا، لرحيل ملكتهم، رمز وحدتهم وعزّتهم وإفتخارهم. بكوا كثيرًا لهذا الغياب. لا كما يفعل بعض اللبنانيين، الذين ينتظرون أن تزّف ساعة الرحيل بفارغ الصبر، وقد أصبحت الأيام الأخيرة أصعب وأثقل بكثير من أوّلها. ففي البداية كانوا يأملون. ولكن مع دنو خطّ النهاية أصبح تفتيشهم عن هذا الأمل كم يفتّش عن إبرة في كومة قش. أماتوا الأمل في قلوبهم، وأطفأوا الشعلة.
رحلت الملكة إليزابيت عن هذه الفانية، وهي تقول “باطل الأباطيل وكل شيء تحت هذه السماء باطل”.