من “توازن الرعب” إلى “توازن السلام”… هذا ما تخطّط له واشنطن للمنطقة
لا يمكن لأي محلّل سياسي إلاّ أن يتوقف، وبكثير من التمعّن، أمام ما حصل في آخر أسبوعين، من تطورات متسارعة سواء على الساحة العراقية أو على الساحة اللبنانية بما يتعلق بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وقد يبدو ساذجًا كل من لا يقرّ بأن الأصابع الأميركية هي التي حرّكت المياه الراكدة، مستفيدة من إنشغال روسيا في حربها الأوكرانية، وذلك من أجل ترسيخ وجودها، وإن ديبلوماسيًا، في المنطقة، من دون إغفال إمكانية أن يكون وراء كل هذا صفقة معينة مع إيران، ولو من تحت الطاولة.
إنطلاقًا من هذه الفرضية يمكن طرح أكثر من سؤال، ومن بينها: هل تأخرت الدبلوماسية الأميركية في تسجيل حضورها المباشر في منطقة الشرق الأوسط منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، أم أن نجاح الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أملتها ظروف استثنائية؟ هل يندرج هذا النجاح الأميركي تحت شعار: “واشنطن حاضرة حين ترغب”، أم أن القلق من تجاوز الأحداث المتسارعة في المنطقة حدود السيطرة شكّل محرّضاً أساسياً لتفعيل دور واشنطن ووضع بصمتها عبر إتفاق ترسيم الحدود، الذي لم يكن ليحصل لولا الوساطة الأميركية، وهل اغتنمت فرصة تفجر الصراع المسلح وسط التهديدات الإسرائيلية من جهة، واللبنانية عبر “حزب الله” من جهة ثانية، لتطلّ بدبلوماسيتها وتقوم بتوزيع الأدوار على اللاعبين المعنيين من باب رفع العتب؟
المنطق يقول إن القوة الأكبر في العالم لا تستطيع أن تدير ظهرها لأي بقعة ساخنة على وجه المعمورة إذا كانت ساعيةً إلى تثبيت حضورها ودورها وتأثيرها فيها، ومصممة على صيانة مصالحها ومراعاة مصالح شركائها وحلفائها الإقليميين؛ فكيف الحال حين تكون هذه البقعة هي منطقة الشرق التي ظلت على مدار قرن من الزمن محور استقطابات وصراعات دولية لأسباب لا تخفى على أحد، بدءاً بثرواتها الباطنية ومواردها المتعددة المصادر، مروراً بموقعها الجغرافي وصولاً إلى قضاياها ذات الطابع المصيري وتحديداً قضية فلسطين بأبعادها الإنسانية والسياسية والحقوقية حاضرًا ومستقبلًا، وترابطها العضوي مع كل تفاصيل المشهد المضطرب فيها.
ما حصل بين لبنان وإسرائيل ، وإن لم يكن تطبيعًا أو سلامًا، لا بدّ من أن يكون له تأثير إيجابي على الداخل الفلسطيني، إنطلاقًا من موقف وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الذي طرحه ضمن معادلة دبلوماسية متقنة حين أفصح عن مقاربات إدارته بشأن القضية الفلسطينية عموماً بحديثه عن حل الدولتين في إطار “عملية سياسية حقيقية”، وعن وضع حد للتوتر وإعادة إعمار غزة بشكل خاص.
فتوازن التعاطي الأميركي الجديد مع قضايا المنطقة يعكس إدراكاً لجوهر المشكلة، ويشير إلى استعداد مبدئي لدى إدارة بايدن للعمل على رسم خارطة طريق لأطراف الصراع تؤسس لتفاهمات وربما اتفاقات راسخة على قاعدة ضمان حقوق ومصالح الجميع.
فبعدما عاشت المنطقة في السنوات الأربعين الأخيرة تحت تأثير معادلة “توازن الرعب”، التي فرضها “حزب الله” والفصائل الفلسطينية، ترى الإدارة الأميركية، وبعد نجاحها في عملية الترسيم، أن الفرصة سانحة أمامها لقلب هذه المعادلة وتحويلها إلى صيغة جديدة على شاكلة “توازن السلام”. إلاّ أن دون الوصول إلى هذا المستوى من التعاطي الديبلوماسي على الطريقة الأميركية صعوبات ومعوقات كثيرة، إذ العقبات كثيرة على طريق الوصول إلى المعادلة الجديدة، لكنها ليست مستحيلة، كما يقول بعض المحللين السياسيين.
تحقيق معادلة “توازن السلام”، إنطلاقًا من عملية الترسيم، وصولًا إلى تنشيط الحركة الديبلوماسية الهادئة على مستوى الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يستلزم خطوات وإجراءات أميركية عملية وفعلية واستراتيجية المنحى، منها تعزيز دور الحلفاء في المنطقة واحترام مصالحهم، والاعتراف بأدوارهم ودعمهم في إنتاج سلام دائم وشامل للقضية الفلسطينية.
فإذا لم تتطور الحركة الأميركية، التي نجحت في كل من بيروت وتل ابيب، في إتجاه القضية الفلسطينية، وإذا لم ينتج عنها تعزيز فرص السلام في المنطقة، الذي يُعتبر المحفّز الوحيد لتحقيق إستقرار المنطقة وازدهارها، فإن كل ما تقوم به واشنطن دون المستوى المأمول، وسيبقى موضوع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل مجرد إتفاق إقتصادي بحت.
المصدر: “لبنان 24”